الثورة- ترجمة هبه علي:
بينما كانت الشمس الحمراء تغرب في أفق الصحراء، كان الأطفال يصرخون ويلعبون في مياه نهر الفرات، وكانت عائلاتهم تتناول طعامها على الطاولات بالقرب من المياه الضحلة.عادت الأمسيات الهادئة لكثيرين في سوريا، لكن بالنسبة لأهالي دير الزور، المدينة الصحراوية في شرق البلاد بالقرب من الحدود مع العراق، فإن السلام لا يزال ينتظرهم.
قال علي محمد الحلو 45 عاماً، الذي يسكن بجوار مسجد عثمان بن عفان المدمر، حيث انطلقت بعض أولى الاحتجاجات ضد الديكتاتور السابق بشار الأسد في انتفاضة عام 2011: “قدمت دير الزور الكثير من الأرواح والدماء”، و”على الحكومة أن تولي دير الزور اهتماما أكبر”.تتأرجح هذه المدينة والمحافظة المحيطة بها وشعبها بين الفخر بكونها من بين أوائل المدن التي وقفت في وجه نظام الأسد والاستياء من الإهمال حالياً. تعرف دير الزور، وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل)، بأنها المدينة الأكثر تضرراً في البلاد، فقد تضررت على مدار سنوات من القصف والتفجيرات الجوية التي شنها النظام خلال حرب استمرت 13 عاماً ضد معارضيه، فقد تم قصف كل مبنى على حدة، مما أدى إلى تدميره بالكامل، وأصبح غير صالح للسكن، بما في ذلك 75 في المائة من إجمالي المساكن في المدينة، وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
نهر الفرات، نبع الحياة والحضارة منذ فجر بلاد ما بين النهرين، أصبح خط جبهة، ولا يزال كذلك حتى اليوم، سقط جسره المعلق الشهير.وتسيطر قوات الحكومة السورية الجديدة على المدينة والطرق السريعة الرئيسية على الضفة الغربية لنهر الفرات.على الضفة الأخرى للنهر، توجد ميليشيا مدعومة أمريكياً بقيادة كردية تعرف باسم قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، ولسنوات، كانت هذه الميليشيا الحليف الرئيسي لواشنطن في الحرب ضد داعش، ولا تزال تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا.وفي مقابلة صحفية أعرب محافظ دير الزور غسان السيد أحمد، عن قلقه إزاء كيفية تأثير تقسيم المحافظة على الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وإنعاش الاقتصاد، خاصة وأن معظم موارد النفط في المنطقة تقع شرقي النهر في المنطقة التي تسيطر عليها القوة التي يقودها الأكراد.
وقال المحافظ في المقابلة: “نريد أن ينجح الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية، من المستحيل العيش في محافظة منقسمة”.ويقع مكتب المحافظ وهو مبنى كبير مغطى بالحجارة ومحاط بسياج حديدي، في الجزء الغربي من المدينة الذي كان تحت سيطرة حكومة الأسد خلال الحرب ولا يزال سليماً.عند القيادة عبر الصحراء من الغرب، تبدو المدينة للوهلة الأولى مزدهرة، بحرم جامعي كبير، وشوارع تصطف على جانبيها أشجار النخيل، ومباني حكومية مهيبة، وعلى مقربة منها، تمتد أحياء من المباني الشاهقة المنهارة، وأكوام من الأنقاض تتساقط على الطرق، وشوارع مغطاة بالغبار.
قال قدري موصلي صاحب متجر في أحد شوارع المدينة الرئيسية، والذي ينام في متجره لحمايته من اللصوص: “في الليل، يكون الظلام دامس، إنه أمرٌ مخيفٌ للغاية، كان هذا الشارع يعج بالناس من الصباح حتى الثانية صباحاً، والآن لا يوجد هنا سوى متجري”. وسط الأنقاض، وجدت الأسر طريقة للعيش، فقاموا بترميم غرفة أو اثنتين، ونصبوا الخيام على الأسطح المفتوحة، أو خيّموا على الأسرة في الشارع، ولكن الحياة محفوفة بالمخاطر.قال المحافظ: إن ما يقدر بنحو 88% من سكان المحافظة يعانون من الفقر، وقد عاد العديد من النازحين إلى ديارهم في الأشهر الأخيرة ليجدوا منازلهم متضررة بشكل لا يحتمل، وأن كثيرين آخرين يبقون في أماكن بعيدة لعدم وجود مأوى.لماذا دمروها بالكامل؟ تساءل وليد يوسف أحمد، مدير الأمن والوصول في جمعية “بهار” الخيرية السورية، وأضاف: “لم يرد الناس العودة”.بالنسبة للبعض، اختفى المجتمع الذي عرفوه، لم يبق من المجتمع المسيحي المزدهر الذي كان قائماً قبل الحرب سوى حفنة قليلة، وتعد الكنائس الخمس المهجورة في الحي المسيحي القديم بوسط المدينة تذكيراً بتنوع التراث الثقافي السوري، واحدة منها هي كنيسة تذكارية ومكان للحج للأرمن في جميع أنحاء العالم.
قالت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية هند قباوات: إن أهالي دير الزور المعروفين بكرم ضيافتهم، قدموا المأوى للاجئين الأرمن الفارين من الإبادة الجماعية عام 1915 في الدولة العثمانية، وهو مثال على التسامح الديني والعرقي.تم تفجير كنيسة المسيح الملك التي أسسها رهبان من الرهبان الكابوشين، على يد مقاتلي “داعش” الذين حفروا نفقاً تحت المجمع لمهاجمة قوات الأسد التي كانت تتمركز هناك، حسب ما قاله أفراد ومسؤولون من المجتمع المحلي.
وظلت المدينة تتشبث بالحياة بلا كهرباء لثلاث سنوات، إذ أغلق تنظيم داعش المنطقة بإحكام، ولم تكن الإمدادات تصل إلا جوّاً عبر طائرات عسكرية سورية، فباعت العائلات سياراتها ومنازلها لدفع ثمن رحلة المغادرة، كما قال محمود أبو الخير، طالب الحقوق البالغ من العمر 25 عاماً والذي يعمل أيضاً نادلاً، ومنذ سن الثانية عشرة، عاش سنوات القتال، ولم يغادر المدينة قط، وقال: نشعر بالخوف طوال الوقت، “لا مستقبل لنا، عمري ٢٥ عاماً، وحياتي صفر”.
ورغم الفقر، هناك عزيمة وصمود بين أهالي دير الزور، وهناك مظاهر من حسن الضيافة.
المصدر- The New York Times