الثورة – جهاد اصطيف:
تعيش مدينة حلب الصناعية في الشيخ نجار حالة من الحراك الاستثنائي مع انطلاقة جديدة لمرحلة إعادة الإعمار، بعد سنوات من التحديات التي عصفت بالاقتصاد السوري وأثرت بشكل مباشر على القطاع الصناعي.
اليوم، تعود الحركة إلى قلب المعامل والمقاسم، في مشهد يعكس إرادة الحياة لدى الصناعيين والمستثمرين، ويعيد إلى الأذهان الدور التاريخي لحلب كعاصمة اقتصادية وصناعية لسوريا والمنطقة.
خلفية عن المدينة الصناعية
المدينة الصناعية في الشيخ نجار، التي تأسست لتكون واحدة من أكبر المدن الصناعية في الشرق الأوسط، تعرضت خلال السنوات الماضية لدمار واسع نتيجة الحرب وتوقف الإنتاج، لكن مع استعادة الأمن وعودة الحياة تدريجياً إلى المدينة، بدأت الإدارة بإطلاق برامج جديدة لإعادة البناء، تضمنت الاكتتاب على مقاسم صناعية وتسهيلات للمستثمرين، سواء من داخل البلاد أو خارجها.
وبحسب تقرير رسمي لإدارة المنطقة الصناعية، فإن المرحلة الأولى من الاكتتاب على المقاسم حققت نجاحاً لافتاً، ما دفع الإدارة إلى فتح باب الاكتتاب على المرحلة الثانية، بمساحات مختلفة تتناسب مع جميع أنواع الصناعات، من الغذائية إلى النسيجية، وصولاً إلى الصناعات الهندسية والكيماوية والتقنية.
حراك غير مسبوق
في جولة داخل المدينة الصناعية اليوم، لا تكاد تخلو الساحات من معدات الحفر والآلات، فيما تتوزع الورشات بين بناء الهياكل الخرسانية للمعامل، ومد خطوط الكهرباء والمياه، إلى جانب إعادة تأهيل الطرق والبنية التحتية، هذا المشهد- كما يؤكد الصناعي أنس رمضان- يمثل ولادة جديدة للصناعة السورية.
يقول رمضان: قبل سنوات، كانت المدينة الصناعية أشبه بجسد مريض، أصابه الوهن والتعب، لكننا اليوم نعيش مرحلة النقاهة والتعافي، أصوات المعدات التي نسمعها يومياً، والغبار الناتج عن البناء، كلها دلائل على أننا عدنا إلى العمل.
ويشير إلى عوامل عديدة ساهمت في عودة المستثمرين، أبرزها التسهيلات الحكومية، والتقسيط المريح لثمن الأراضي الصناعية، إضافة إلى مرونة الإدارة في تخصيص الأراضي بما يتناسب مع احتياجات الصناعيين.
مستثمرون عائدون
واحدة من الظواهر اللافتة هي عودة صناعيين كانوا قد غادروا إلى تركيا أو أوروبا خلال الحرب، ويشير المتعهد عمر إسماعيل مصري، إلى أن حلب تستعيد أبناءها، لافتاً إلى أنه كان يعمل في مرسين بتركيا، وحقق هناك مشاريع جيدة، لكنه قرر تقليص أعماله والعودة فوراً بعد تحرير سوريا، مضيفاً: الوطن يحتاجنا، وأرضنا تستحق أن نستثمر فيها ونبني مصانعنا هنا.
ويؤكد أن الصناعة ليست مجرد تجارة أو ربح مالي، بل هي مسؤولية وطنية، كل معمل جديد يفتتح، يعني عشرات فرص العمل للشباب، ويعني منتجاً وطنياً يغني عن الاستيراد، ويدعم الاقتصاد السوري في مرحلة حساسة.
المتعهد مصري ليس حالة فردية، بل هناك عدد من الصناعيين الذين قرروا العودة من تركيا ودول الخليج وأوروبا وحتى من الصين، حيث قام بعضهم بشراء محاضر صناعية للاستثمار فيها، مستفيدين من البيئة الجديدة التي توفرها المدينة الصناعية.
خطوات مدروسة
رئيس دائرة العلاقات العامة في المدينة الصناعية حسام الراعي يؤكد أن إدارة المدينة تعمل بخطوات مدروسة، موضحاً أنه بعد أن أنهت الإدارة الاكتتاب على المرحلة الأولى، أطلقت المرحلة الثانية التي تضم مقاسم بمساحات متعددة، لتناسب الصناعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، الإقبال كان لافتاً، وهناك رغبة قوية لدى الصناعيين للعودة والإنتاج.
ويشير إلى أن حركة البناء المتسارعة لا تقتصر على تشييد المعامل فحسب، بل تشمل كذلك تحسين البنية التحتية من كهرباء وطرقات واتصالات، إلى جانب إنشاء مناطق خدمية ولوجستية متنوعة.
وينوه الراعي بأن الفرصة اليوم متاحة أمام الصناعيين للدخول في أي استثمار يرونه مناسباً، والمدينة الصناعية بحلب باتت بيئة جاذبة قادرة على المنافسة، وخاصة مع الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمدينة الذي يربطها بالأسواق المحلية والدولية.
التحديات القائمة
رغم هذه الانطلاقة القوية، لا تخلو الطريق من تحديات، عدد من الصناعيين أشاروا إلى أن التحديات تتمثل في تأمين المواد الأولية بأسعار مقبولة، وتحسين البنية التحتية اللوجستية، وخاصة في النقل والشحن، ومواجهة المنافسة الخارجية مع المنتجات المستوردة، والحاجة إلى استقرار طويل الأمد في الطاقة الكهربائية.
في المقابل، يرى عدد آخر من الصناعيين أن التحدي الأكبر، هو في إيجاد سياسات اقتصادية مرنة تدعم الصناعيين، عبر خفض الرسوم الجمركية على المواد الأولية، وتقديم حوافز تصديرية، إضافة إلى فتح قنوات جديدة مع الأسواق الإقليمية.
الفرص المستقبلية
برغم الصعوبات، يعتقد الخبراء أن أمام الصناعة السورية فرص واسعة، وخاصة في ظل التوجه الحكومي لدعم الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، مع التأكيد أن الصناعات النسيجية والغذائية والدوائية، يمكن أن تكون قاطرة للنمو خلال السنوات القادمة. كما أن وجود مستثمرين أجانب، وخاصة من الصين، يفتح الباب أمام إدخال تقنيات جديدة وخطوط إنتاج حديثة، ما قد يرفع جودة المنتجات السورية، ويعزز قدرتها على المنافسة إقليمياً.
اليوم، ومع تسارع أعمال البناء والاكتتاب، تعود مدينة الشيخ نجار الصناعية لتثبت أنها ليست مشروعاً اقتصادياً بامتياز فحسب، بل إنها رمز لإرادة الحياة لدى السوريين، وهي شاهد على أن الصناعة الوطنية قادرة على النهوض من تحت الركام، لتعود وتكون رافعة للاقتصاد الوطني، وركيزة للتنمية المستقبلية، فمدينة حلب الصناعية تدخل مرحلة جديدة، قد تكون البداية الحقيقية لتعافي الاقتصاد السوري بأكمله.