عندما يُكتب الفساد بالحبر الرسمي.. ملف استيراد القمح نموذجاً

تحقيق: هلال عون

هي واحدة من أكثر قضايا الفساد حساسية، لأنها تتعلق بعقود استيراد القمح، محطات هذا التحقيق تكشف سلسلة من المخالفات المالية والإجرائية، في عقود توريد القمح، التي أبرمتها المؤسسة السورية للحبوب قبل بضع سنوات.

مجريات التحقيق تطرح تساؤلات عما إذا كان الفساد محمياً من قبل اللجنة الاقتصادية في الحكومة بالتعاون مع رئيس الحكومة، وحاكم المصرف المركزي آنذاك.. لنتابع التفاصيل.

من أين بدأت القصة؟

القضية، ببساطة، تدور حول فروق بسيطة في الأرقام على الورق – لكنها في الواقع تعني خسارة نحو 300 مليون ليرة سورية من أموال الخزينة نتيجة أخطاء أو قرارات غير مبررة في تثبيت أسعار التوريد.

فبينما تقول المؤسسة إن “كل شيء تم وفق الأصول” تكشف الوثائق الرسمية أن الوقائع كانت أبعد ما تكون عن الشفافية.

في نهاية تشرين الأول من عام 2017، أعلنت المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب عن استدراج عروض لاستيراد 300 ألف طن من القمح بطريقة “التعاقد بالتراضي”.

حُدد موعد فض العروض في 13 تشرين الثاني، وحضر جلسة الفض مفتش من الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.

النتائج كانت واضحة منذ اللحظة الأولى، وجاءت على النحو التالي:

– أولاً: شركة الشرق الأوسط قدّمت عرضا بـ 231 دولاراً للطن.

– ثانياً: قدّمتْ أربع شركات أخرى، هي: الأسواق الحرة العربية، الفهر أوف شور، استيل أوف شور، ماغا غروب، قدمت السعر ذاته تقريباً، وهو 245 دولاراً للطن.

( بالمناسبة الشركات، تعود فعلياً لكل من: محمد حمشو، رامي مخلوف، سامر الفوز، حسام قاطرجي، والخامسة لرجل أعمال لبناني).

المفتش المندوب من الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش لم يتردد، وأوصى بتفشيل التعاقد لأن الأسعار المعروضة مرتفعة مقارنة بالسعر العالمي الذي كان يتراوح بين 190 و192 دولاراً للطن في تلك الفترة.

وبناء على ملاحظته، تم فعلاً إعلان فشل المناقصة.

لكن ما حدث بعد مغادرة المفتش كان بداية القصة الحقيقية.

تفشيلٌ فالتفافٌ فتثبيت!

بعد دقائق من مغادرة المفتش، اجتمع مجلس إدارة المؤسسة بناءً على توجيه وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك آنذاك، عبدالله الغربي، وأصدر القرار رقم (140/م)، الذي أعطى الشركات مهلة لا تتجاوز ساعة واحدة لتقديم عروض جديدة.

وفي اليوم نفسه، اجتمعت لجنة الأمر الإداري مجدداً وأوصت بالتثبيت مع الشركات الخمس نفسها على أن يتم التعاقد معها جميعا – بمعدل 60 ألف طن لكل شركة – وبسعر موحد هو 230 دولاراً للطن!!، على أن يتم الشحن خلال شهري كانون الثاني وشباط 2018.

نعم، هكذا تحوّل قرار التفشيل إلى تثبيت!! وتحولت المنافسة المفترضة إلى اتفاق بالتراضي، خلافاً لتوصية المفتش وللإجراءات التي كان من المفترض أن تُتبع.

الدفع بالدولار والنيات السيئة

في السابع والعشرين من تشرين الثاني 2017، خاطب حاكمُ مصرف سورية المركزي رئيسَ مجلس الوزراء بكتاب رسمي (رقم 6252)، اقترح فيه إعادة التفاوض مع الشركات، بحيث يتم الدفع بالعملات الأجنبية مقابل تخفيض السعر، ما يعني أن المؤسسة يمكنها توفير جزء من قيمة العقد إن تم التسديد بالدولار بدلاً من الليرة السورية.

وبالفعل، عُقد اجتماع في المصرف المركزي بتاريخ 7 كانون الأول 2017 بحضور ممثلين عن السورية للحبوب، وانتهى الاتفاق إلى أن يتم الدفع بالدولار نقداً للمورِّدين مقابل تخفيض لا يقل عن دولارين للطن الواحد، وأُمهلت الشركات يومين للرد.

وفي 11 كانون الأول من العام نفسه، اجتمع المدير العام المكلف للسورية للحبوب يوسف قاسم ومدير التجارة الخارجية ومعاونه ورئيس دائرة الاستيراد مع ممثلي الشركات، وجرى التوصل إلى عرضين نهائيين: 230 دولاراً للطن إذا تم الدفع بالليرة السورية، و 228 دولاراً للطن إذا تم الدفع بالدولار.

كل الأطراف وافقت، وانتهى الاجتماع بتوقيع رسمي على المحضر.


المفاجأة!

بعد أيام قليلة، صدرت توصية اللجنة الاقتصادية رقم (57) بتاريخ 18 كانون الأول 2017، ونُقلت إلى الجهات المعنية في 21 كانون الأول، متضمنة بنداً صريحاً ينص على تسديد قيمة الأقماح بالدولار الأميركي، ولكن بسعر 230 دولاراً للطن – لا 228 كما تم الاتفاق عليه.

بكلمة أخرى، تم تجاهل ما اتُفق عليه رسمياً في اجتماع موثق، وأُعيد السعر إلى الرقم الأعلى، لتخسر الخزينة 2 دولار عن كل طن من أصل 300 ألف طن — أي ما يعادل نحو 600 ألف دولار، أي قرابة 300 مليون ليرة سورية حينذاك.

السؤال الذي لم يُجب عنه أحد حتى اليوم؟ مدير عام المؤسسة العامة للحبوب، أجاب على سؤال الثورة” حين سألته عن تفسير ما جرى بالقول: جاءني كتاب من اللجنة الاقتصادية بدفع السعر 230 دولاراً للطن، وأنا نفذت مضمون كتاب اللجنة الاقتصادية!

وحين عادتْ وسألتْه “الثورة” عن السبب الذي منعه من إبلاغ اللجنة الاقتصادية بأن السعر المتفق عليه هو 228 لا 230 ، أعاد القول بأنه نفذ مضمون كتاب اللجنة!، أما عن سؤال “الثورة” حول الجهة التي قبضت الـ 600,000 دولار، قال بانفعال واضح: اسأل اللجنة الاقتصادية.

عمداً أم سهواً؟

الوثائق تؤكد أن المحضر الرسمي موقع من ثلاثة مسؤولين في المؤسسة، بينهم المدير العام المكلف، ومع ذلك لم تُخطر اللجنة الاقتصادية رسمياً قبل إصدار توصيتها!.

( في رأي أحد المسؤولين – آنذاك – إن مقولة: إنه لم يتم إخطار اللجنة الاقتصادية، هو قول سخيف، لأن الطبخة كلها تمت بتخطيط وإشراف اللجنة.

مخالفات كبيرة بالعقود

المسألة لم تتوقف عند فارق السعر، فبعد مراجعة العقود المبرمة والوثائق الرسمية، ظهرت سلسلة طويلة من المخالفات، أبرزها:

أولاً: تمّ تثبيت العقود خلافاً لرأي لجنة فض العروض وتوصية المفتش القاضية بتفشيل المناقصة.

ثانياً: تجزئة الكمية إلى 60 ألف طن لكل شركة، رغم أن الإعلان الأصلي حدّد الحد الأدنى للتوريد بـ 100 ألف طن.

ثالثاً: التسديد بالدولار، رغم أن الإعلان نص على الدفع بالليرة السورية.

رابعاً: فتح اعتماد مستندي رغم أن نص الإعلان كان واضحاً بأن التسديد يتم بعد وصول الشحنات وقبولها أصولاً.

أما فتح الاعتماد المستندي، فهو يعني – حسب الخبراء الماليين – أن المصرف المركزي خصص الأموال مسبقاً وأودعها لدى المصرف التجاري السوري لصالح الشركات المتعاقدة، ما أتاح لها ضمانات مصرفية في الخارج وتمويل عملياتها بأموال الدولة نفسها، لا من مواردها الخاصة.

المؤسسة تبرر

في ردها على ما ورد في التحقيق، قالت المؤسسة السورية للحبوب، على لسان مديرها العام المهندس يوسف قاسم: إن “التجزئة إلى 60 ألف طن كانت تصب في مصلحة المؤسسة”، وإن “الاعتماد المستندي وفّر نفقات بواقع دولارين للطن الواحد”.

أما عن السبب في تثبيت السعر على 230 بدل 228 دولاراً، فقال قاسم: إن السؤال يجب أن يُوجّه إلى اللجنة الاقتصادية، مضيفاً: “المذكرة التي رفعناها كانت واضحة، واللجنة هي من اتخذت القرار، وأنا أنفذ ما يُطلب مني، لا أكثر”.

وبنقل مبرراته إلى خبراء قانونيين واقتصاديين، قالوا: إن مسؤولية المؤسسة لا تقتصر على التنفيذ فقط، بل تشمل التوضيح والتصحيح عند وجود التباس مالي بهذا الحجم، وخاصة عندما يكون القرار النهائي مخالفاً لما تم الاتفاق عليه رسمياً.

ويشير الخبراء القانونيون والاقتصاديون إلى نقطة جوهرية، كثيراً ما تتكرر في قضايا الفساد الإداري، وهي أن صياغة الإعلان بشروط معينة، ثم تنفيذ العقود بشروط مغايرة تماماً.

وقالوا: لو أن إعلان المناقصة الأصلي تضمّن منذ البداية البنود التي نُفذت لاحقاً – مثل التجزئة إلى 60 ألف طن، والدفع بالدولار، وفتح اعتماد مستندي – لكانت شركات عديدة أخرى تقدمت للمنافسة، وربما تم الحصول على أسعار أقل، لكن ما حدث، بحسب الخبراء كان أشبه بخطة محسوبة، أي أن يكون الإعلان شيئاً، والواقع العملي شيئاً آخر، كي لا يتمكن أصحاب الشركات المتوسطة من الدخول في المنافسة، ويبقى التوريد محصوراً بالشركات الكبرى.

تعديل العقود وتمديد المهل!

تواصلت المخالفات حتى بعد توقيع العقود، فقد وافقت المؤسسة في نيسان 2018 على تعديل بنود أساسية في أحد العقود بناء على طلب من إحدى الشركات، حيث ألغيت البنود (4 و8 و9 و10 و11) بكتاب رسمي موجه إلى المصرف التجاري السوري، وهو ما يعد مخالفة صريحة لشروط العقد المبرم، كما جرى تمديد مدة الشحن إلى خمسة أشهر بدلاً من شهرين، أي حتى نهاية أيار 2018، من دون وجود أي “ظرف قاهر” يبرر ذلك، كما تذرعت المؤسسة.

وبهذا التبرير أُسقطت غرامات التأخير التي تبلغ 0.5% من قيمة العقد عن كل يوم، ما يعني ضياع مبالغ إضافية من أموال الخزينة.

ما بين السطور…

تكشف هذه القضية – في تفاصيلها الصغيرة – عن ثغرات كبيرة في منظومة العمل الإداري والرقابي: قرارات متناقضة بين جهات حكومية مختلفة، ضعف في التواصل الرسمي بين المؤسسة واللجنة الاقتصادية، تنفيذ فعلي يسبق الموافقات القانونية، وأخيراً، غياب المساءلة الصريحة عن خسائر مالية تقدر بمئات الملايين، مع أن الجهات الرقابية تتابع هذه الملفات.

وبالنتيجة يمكن الاستنتاج أن ملف استيراد القمح لم يكن مجرد أخطاء إجرائية أو تفاوت في الأسعار، بل هو نموذج واضح لكيفية إدارة الفساد بغطاء رسمي، من قرار “تفشيل” المناقصة إلى “تثبيتها”، ومن التعاقد بالتراضي إلى تعديل العقود وفتح الاعتمادات خلافاً للنصوص، تتابعت المخالفات بتنسيق محكم بين المؤسسة السورية للحبوب واللجنة الاقتصادية، بينما غابت الشفافية والمساءلة تماماً.

والنتيجة خسارة تقارب 300 مليون ليرة سورية من المال العام، وتأكيد جديد على أن الفساد لم يكن عَرَضاً في مؤسسات الدولة، بل نهج مؤسس محمي بقرارات رسمية.

قضية القمح هذه ليست سوى مثال واحد على ما يحدث عندما يُدار المال العام بمنطق “التراضي” لا بمنطق القانون.

آخر الأخبار
بعد تبرعه بكرسيه المتحرك.. اغتيال موفق هارون يثير صدمة في ريف دمشق عون: لقاءاتي مع الرئيس الشرع كانت إيجابية ونسعى لتطوير العلاقات الذاكرة لا تُحرق.. دعوات أكاديمية لحفظ إرث النظام البائد وتحليله علمياً منتخبنا يلاقي ميانمار إيابا.. تفوق نظري لحسم التأهل المبكر لآسيا 2027 كنان العظمة في "نصف القمر" عندما يتحول المنزل إلى معرض فني نابض بالحياة بلال شوربة.. يجسد صوت الثورة السورية بفنه عندما يُكتب الفساد بالحبر الرسمي.. ملف استيراد القمح نموذجاً بالتعاون  مع "  NRC".. "تربية" حلب تنهي تأهيل مدرسة سليمان الخاطر مزايا متعددة لاتفاقية التعاون بين المركز القطري للصحافة ونادي الإعلاميين السوريين تعزيز التعاون السوري – الياباني في مجالات الإنذار المبكر وإدارة الكوارث   تطبيق السعر المعلن  تطبيقه يتطلب مشاركة التجار على مدى يومين ...دورة "مهارات النشر العالمي" في جامعة اللاذقية مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن لرفع العقوبات عن الرئيس الشرع في “60 دقيقة.. الشرع يقدّم نموذج القيادة السورية: صراحة في المضمون وحنكة في الرد إعادة الممتلكات المصادرة  لأصحابها تعيد الثقة بين الحكومة والمواطنين افتتاح مشروع لرعاية أطفال التوحد ومتلازمة داون بمعرة مصرين "تموين حلب" تبحث ملفات خدمية مشتركة مع "آفاد" التركية من دمشق إلى أنقرة... طريق جديد للتعاون مشاركة سورية في حدث تكنولوجي عالمي بعد غياب لسنوات