الثورة – إيمان زرزور:
أثار قيام طلاب من كلية الآداب في جامعة حلب، بحملة لجمع وإتلاف الكتب التي تعود إلى مرحلة نظام الأسد البائد، موجة واسعة من ردود الأفعال في الأوساط الثقافية والأكاديمية السورية، حيث رأى كثيرون أن هذه الخطوة، رغم ما تحمله من رمزية ثورية، تشكّل خسارة معرفية إذا لم تُقابل بموقف علمي يحفظ هذا الإرث ويفكّك مضامينه.
وانتشرت صور للطلاب وهم يجمعون مؤلفات ومنشورات كانت تُدرّس أو تُعرض في الجامعات السورية خلال العقود الماضية، بهدف التخلص منها “كليّاً” باعتبارها تمثل خطاب السلطة السابقة وأدواتها الدعائية، غير أن هذه الخطوة، التي بدت للبعض تعبيراً عن قطيعة مع مرحلة الاستبداد، رآها آخرون تصرفاً متسرعاً يكرّر خطأ النظام نفسه حين صادر الفكر المختلف وألغى التعددية الفكرية.
وعبر عدد من الصحفيين عن رفضهم لهذه الحملة، حيث دعوا طلاب الجامعات إلى عدم إتلاف الكتب المرتبطة بالنظام البائد، بل دراستها وتحليلها كجزء من فهم التاريخ السياسي والفكري لسوريا، ورأى هؤلاء أن مهمة الطلاب في المراكز العلمية والبحثية ليست الحرق، بل الفهم واكتشاف كيف بنت الديكتاتورية لغتها وأساليبها في الإقناع.
وبيّن الداعون لحفظ هذا الإرث أن الجامعات ينبغي أن تكون ساحات للبحث لا للانتقام الرمزي، وأن الحفاظ على هذه الكتب بوصفها وثائق بحثية يساعد الباحثين على تفكيك الخطاب السلطوي الذي شكّل الوعي الجمعي لعقود، حتى لا تتكرر تلك التجربة في المستقبل تحت شعارات مختلفة.
يرى باحثون ومؤرخون أن إتلاف كتب النظام السابق، مهما كانت محمّلة بالأيديولوجيا، يعني طمس جزء من الذاكرة الوطنية، فهذه المؤلفات تمثل سجلاً لمرحلة تاريخية معقّدة، يمكن من خلالها دراسة كيف صاغت الأنظمة الاستبدادية أدواتها الفكرية لتبرير القمع والسيطرة على المجتمع. ويؤكد مختصون في علم الاجتماع السياسي أن تحليل هذه المواد يتيح للأجيال القادمة فهم البنية الثقافية للاستبداد، ويمنح الباحثين فرصة لتوثيق أثر الدعاية السياسية على التعليم والثقافة والهوية السورية، ما يجعل من الحفاظ عليها ضرورة أكاديمية لا ترفاً فكرياً.
تُظهر ردود الأفعال الواسعة أن الانتقال من الثورة السياسية إلى الثورة المعرفية لا يزال في بدايته، فبينما يرى البعض أن طيّ صفحة الماضي يقتضي إزالة رموزه المادية والفكرية، يعتقد آخرون أن الطريق نحو مستقبل مستقر يمرّ عبر قراءة الماضي بوعي لا بنكران. ويُجمع المثقفون على أن المعرفة لا تُحرق بل تُفكّك، وأن الانتصار الحقيقي على النظام البائد لا يتحقق بإزالة كتبه من الرفوف، بل بكشف منطقه الداخلي وتعرية خطابه، ليبقى هذا الإرث شاهدًا على مرحلة لا ينبغي أن تتكرر.
تحوّلت هذه الواقعة إلى منعطف فكري مهم في مسار النقاش السوري حول كيفية التعامل مع مخلفات الأنظمة الشمولية، بين من يرى أن التحرر يقتضي القطع الكامل مع الماضي، ومن يؤمن أن المصالحة مع الذاكرة شرط لبناء وعي جديد، وفي الحصيلة، أعادت حادثة جامعة حلب طرح سؤال جوهري: هل يمكن بناء مستقبل حرّ دون فهم عميق للماضي الذي صنع قيوده؟.