الثورة – حسين روماني:
لم تعد القراءة فعلاً هادئاً كما كانت، حين كان القارئ يختلي بكتابه في زاويةٍ من مكتبةٍ عتيقة.
بل أصبحت نشاطاً متسارعاً في فضاءٍ رقمي مفتوح، يختصر العالم في شاشة صغيرة.
في زمنٍ تتبدل فيه أدوات المعرفة كل يوم، يتجدد السؤال الثقافي القديم بثوبٍ جديد: هل ما زال الكتاب الورقي يحتفظ بمكانته؟ أم إن الشاشات أصبحت موطناً جديداً للكلمة والمعرفة؟
لقد غيّرت الثورة الرقمية طبيعة علاقتنا بالثقافة، فالقارئ لم يعد متلقياً صامتاً، بل أصبح مشاركاً فاعلاً، يصنع محتواه ويشارك الآخرين أفكاره عبر وسائط متعددة.
ومع ذلك، فإن هذا التحول – رغم إيجابياته – ترك أثره الواضح على عمق القراءة ونوعيتها.
إذ تحوّلت المعلومة إلى ومضةٍ سريعة، والفكرة إلى منشورٍ عابر، وفقد النص شيئاً من صبره وتأمله.
تقول الباحثة نبيهة الكردي في حديثٍ لصحيفة “الثورة”: “الكتاب الورقي ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو كائن حيّ يحتفظ بدفءٍ خاص وذاكرةٍ لا تعوّض.
إن العلاقة بين القارئ والكتاب هي علاقة وجدانية تبني الوعي وتُنمّي الذائقة.
القراءة على الورق تُعلّم التروي وتمنح الفكر مساحة للتأمل، وهي قيم نفتقدها كثيراً في عصر السرعة الرقمية.
“وترى الكردي أن الاعتماد المفرط على الشاشات أفرز جيلاً يطّلع كثيراً لكنه لا يتعمق، إذ أصبحت القراءة فعل مرور سريع لا يغوص في المعنى.
لذلك، تدعو إلى ترسيخ القراءة الورقية في المدارس والجامعات بوصفها حارساً للمعرفة في زمنٍ يهدد فيه السطحُ العمق.
في المقابل، يرى الكاتب رغيد كرم أن التمسك بالورق وحده يعد نوعاً من الحنين غير الواقعي إلى الماضي.
يقول: “الكتاب الرقمي ليس خصماً للورقي، بل هو امتداد له”، مضيفاً: “لقد جعلت التكنولوجيا الثقافة أكثر انفتاحاً وعدلاً في الوصول.
لم يعد القارئ رهيناً للمكتبة أو الجغرافيا؛ فبكبسة زر، يمكنه الوصول إلى مئات الكتب والمراجع.
هذه هي ديمقراطية المعرفة التي لم تكن ممكنة من قبل.
ويعتبر كرم أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما تثيره من جدل، منحت الثقافة نَفَساً جديداً وأتاحت للأصوات الشابة أن تعبّر عن نفسها خارج أطر النشر التقليدية.
لكنه يقرّ بأن التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على جودة المحتوى وعمق الفكرة وسط هذا الطوفان من المعلومات.
وبين الرأيين، تتجلى ملامح مرحلة ثقافية انتقالية؛ مرحلة لا تُقصي الورق ولا تنكر الشاشة، بل تبحث عن صيغة توازن جديدة تُبقي جوهر القراءة حياً، بعيداً عن الغرق في سطحية السرعة أو حنين الماضي.
فالقراءة ليست وسيلة فحسب، بل فعل وعيٍ ووجود.
سواء أكانت على ورقٍ أصفر أم على شاشةٍ مضيئة، تبقى الكلمة هي التي تصنع الإنسان، وتمنحه القدرة على التفكير، ومقاومة النسيان.