النشء والشباب بين العنف الأسري والضياع الاجتماعي

الثورة – هيثم قصيبة:

لم يعد العنف الأسري مجرّد حوادث فردية تُروى في الخفاء، بل تحوّل إلى ظاهرة تُثقل حياة كثير من الشباب، تاركة وراءها جروحاً نفسية لا تُرى بالعين، لكنها تنعكس على سلوكهم وثقتهم بأنفسهم ونظرتهم إلى المستقبل.

في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والاقتصادية، يجد بعض الآباء والأمهات أنفسهم عاجزين عن ضبط انفعالاتهم، فيما يدفع الأبناء الثمن الأكبر، بين الخوف والصمت والضياع.

من خلال هذا التحقيق، نحاول الاقتراب من أصوات هؤلاء الشباب، الذين عاشوا العنف داخل بيوتهم، لنفهم كيف يؤثر فيهم، وكيف يمكن للمجتمع أن يواجه هذه الظاهرة بأساليب أكثر وعياً وإنسانية.

العنف الأسري والقلق

الشاب، عزيز أحمد، أكد أنه يعيش وسط جو أسري مفكك منفصل، عناصره متباعدة الأهداف والقيم والاتجاهات، وأضاف: والدي حاد الطبع وصعب المراس في تعاطيه مع الأسرة، فهو ينفعل ويغضب ويثور لأسباب لا تستحق الانفعال والغضب. وتصل حدة غضبه وتعنيفه إلى درجة تحطيم بعض أثاث المنزل، بل ويقذفني -كوني أكبر الأولاد – بلهيب شتائمه، وسعير سبابه.

وتابع: والدي لايكترث بكوني كبرتُ وتجاوزتُ العشرين عاماً، وقد نضجت مشاعري وتفتحت رغباتي وميولي، وهذا الكم الضاغط من العنف والتعنيف يكسرني ويقهرني ويدفعني بصورة دائمة إلى الهروب والخروج من المنزل، ولا أعود إلا في الأوقات التي يكون والدي فيها خارج البيت.

ولفت إلى أن هذه الطريقة القاهرة الممزقة بالعيش حفرت في داخله أغواراً شديدة التأثير والعمق والاتساع، نتج عنها حالة من حالات التوتر الدائم والشتات النفسي والاضطراب التصوري، الذي يؤرقه ليلاً ونهاراً، ويزجه في متاهات الإعياء والإرهاق والكراهية البغيضة لعنوان الحياة.

التسلط والضياع الاجتماعي

أما الشاب نعيم بدرية فيستغيث من الوضع الاجتماعي القاسي الذي يعيشه، ويقول بألم: من ينقذني من قلقي واستيائي وضياعي، ومن يفتح قلبه وذراعيه لشاب تائه قلق مكتئب، لفظه قلب أبيه، الذي يصفعه بقسوة ويراقب كل تحركاته إلى حد الاختناق، ويحاسبه على كل لفتة وسكنة وحركة.

وبيّن الشاب نعيم أن والده يصادر حقه في تشكيل علاقات رفاقية مع أقرانه، ويضربه إذا تأخر عن المنزل بطريقة لا تتفق مع الأحاسيس والعواطف الإنسانية، وكشف أنه مجتهد في دراسته ويسعى جاهداً لكي يحصل على الشهادة العلمية بدرجات متفوقة، لكن والده الذي يظل في أغلب الأحيان متوتراً ومنفعلاً لا يقدر حاجته إلى الهدوء والأجواء البيتية المناسبة للدراسة.

التشتت النفسي

وفي السياق نفسه، قالت الشابة ندى مرعي: إنني أغوص حتى القاع في جحيم قهري وتشتت نفسيتي، ووهن إرادتي، ومن تسبب بحالتي النفسية المشتتة هو استهتار أمي وأبي بأحاسيسي، وتطلعاتي، فهما يضربان عرض الحائط بحاجتي، مع أختي الثانية، إلى تواجدهما في المنزل لرعايتنا الأسرية.

وأكدت أن خروج أمها وأبيها الدائم والمتكرر حتى ساعات متأخرة من الليل، وعدم جلوسهما معها يؤثر بشكل كبير على توازنها النفسي، وأضافت: بصراحة إن هذه السلوكيات العبثية حولت حياتنا إلى معاناة وجحيم لا يطاق.

وتساءلت ندى: في هذا الجو المشحون العبثي، الملغوم بالعبث واللامبالاة والتشنج وانعدام المسؤولية، ماذا يمكنني أن أفعل؟ وكيف سأحدد مسار حياتي؟ وماهي القيم التي سأقتنع بها؟!.

لقد تهت، ضعت، وتبعثرت طموحاتي على دروب الحياة الوعرة، وبتّ عاجزة عن اختيار الأهداف المتسقة مع سنن الحياة الطبيعية والمبادىء الإنسانية.

الأسرة والعوز المادي

من ناحيته أشار الشاب صالح سليم، إلى أن العوز المادي وضعف الإمكانية الاقتصادية لأسرته قاده مرغماً إلى ترك المدرسة لكي يساعد والده بمصروف الأسرة، وأضاف: إن والدي كان يردد دائماً على مسمعي بأنه غير قادر على تغطية نفقاتي المدرسية والتعليمية، لكن بعد دخولي إلى معترك العمل الشاق الذي كان لا يتناسب مع جسدي النحيل، صار والدي يحاسبني على كل ليرة أصرفها دون الرجوع إليه، وهذا الضغط الذي كنت أتعرض له دفعني إلى الهروب من منزل الأسرة والعيش وحيداً في غرفة استأجرتها وأدفع إيجارها من كدّي وتعبي.

وبين كل مدة وأخرى أحوم من بعيد حول منزل الأسرة كي اطمئن على إخوتي الصغار الذين أتألم عليهم كثيراً بسبب جور والدي الذي لا يأبه بتبديد الراتب الضعيف الذي يتقاضاه على حاجاته الذاتية ولايجود إلا بالقليل على والدتي المريضة التي لا تقدر على العمل لتخفيف الأعباء عن الأسرة.

جرثومة العنف لها مناخ

ترى الخبيرة المختصة بعلم الاجتماع، سوزان أديب، أن العنف ضد الأسرة له منعكسات خطيرة على المجتمع، إذ باتت الحياة المعاصرة تضج بكل أشكال العنف الرمزي والمعنوي والمادي.

وباعتبار أن الأسرة هي مكونة من عدة أفراد يجتمعون في منزل واحد فهم يتشاركون في طرائق العيش وأساسيات الحياة ويتفاعلون وينفعلون مع الجو الاجتماعي السائد والقيم المهيمنة على طابع العصر.

وبقدر ماتكون هذه الأسرة متماسكة ومنسجمة ومنتجة وفعالة بقدر ما تنتفي من روابطها وعلاقاتها علائم الانفعال والعنف والخلاف والتفكك والتبعثر.

أما عندما تكون الأسرة مفككة، متفرقة، مشتتة الأهداف والتطلعات، فإن جرثومة العنف ستجد مناخاً خصباً للنمو والفتك والتطفل وأوضحت أديب أنه في عصرنا الراهن يتخذ العنف ضد الأسرة صوراً وأشكالاً متباينة، وهو يتدرج من أقل الصور حدة كالسب وتوجيه الشتائم وتحقير الشخصية إلى أقصى الدرجات، كالإيذاء النفسي والجسدي المؤلم.

ورغم تعدد أسباب العنف الأسري إلا أن السبب الاقتصادي والفقر المادي يأتي على رأس الأسباب المؤدية إلى وقوع العنف ضد الأسرة، خاصة عندما تكون شخصية رب الأسرة غير واعية وغير قادرة على التكيف النفسي مع الظروف القاهرة التي قد تؤدي إلى خلق المشاحنات وتفريغ الشحنات عن طريق العنف والقمع والتسلط وغالباً مايكون الضحية هم الأم والأولاد.

دور الفقر والجهل

وأكدت أديب أن ضعف المستوى التعليمي لطرفي العلاقة الأسرية وانخفاض درجة الوعي بالواجبات الأسرية وانعدام النصح والإرشاد التربوي للمؤسسات التربوية وقدرتها على توعية الأسرة وتنويرها لكي تتمكن من مواجهة تحديات الحياة بصبر وحكمة وشجاعة وتضحية وانفتاح واع وناضج وراشد.

وشددت أديب على أن خطورة العنف الأسري تكمن في نتائجه السلبية المباشرة التي تظهر في بداية الأمر على صورة اهتزاز شخصيات الأسرة، وتوليد أشكال مشوهة من السلوك والممارسة، وتنتهي النتائج بتأثير كامل على بنيان المجتمع ومقومات حصانته ضد كل ألوان العنف والتنمر والقهر والتسلط والضياع الاجتماعي.

وتقدم الخبيرة عدة مقترحات لعلاج الظاهرة والحد من مخاطرها على الأسرة والمجتمع كتوفير جهة شعبية أو رسمية تلجأ إليها الأسرة المتضررة من العنف وتكون هذه الجهة كفيلة بتقديم العون والدعم المادي والمعنوي والرعاية الاجتماعية والنفسية، والمساعدة القانونية إذا لزمت.

وتتم المساعدة عن طريق توعية وتأهيل الأسرة اجتماعياً وتربوياً ونفسياً ولفتت أديب إلى ضرورة إعادة النظر في البنى التربوية القائمة والتركيز الشديد على تخليص الأسرة من موروث الخضوع التام، وضرورة التنسيق بين كافة الفعاليات الاجتماعية المسؤولة عن حماية وتنظيم وتحصين المجتمع، وتقوية خلاياه ضد كافة أشكال العنف والاهتزاز والتفكك، وذلك بما يتيح لكافة وحدات المجتمع التماسك والأمان الاجتماعي والاقتصادي.

ولابد من وضع خطة إعلامية تستهدف تسليط الضوء على المشاكل التي تعاني منها الأسر، وعقد ندوات فكرية اجتماعية بهدف توعية المجتمع، وفي مقدمتها الأسرة من كافة الظواهر الاجتماعية المنحرفة المسببة للانحراف والضياع الاجتماعي.

آخر الأخبار
"واكب".. نواة لحكومة رقمية مرنة وشفافة على أنقاض مساجد حلب.. تُسطّر المدينة قصّة صمودها قرار تنظيم الأمبيرات في حلب بين الترحيب الشعبي وضعف الالتزام الليرة تتراجع أمام الدولار والأسعار تواصل الارتفاع في المواجهة اليومية للشاشات.. هل من سبل للوقاية؟  الأسرة المتماسكة.. بيئة خصبة لإنتاج الطاقات المبدعة قضم الأظفار عند الأطفال.. هل مؤشر لمعاناة أخرى؟ ظاهرة اعتماد الطفل على أمه في دراسته .. هل يمكن حلها؟ "نغم عيسى".. عندما يهز الترند عرش الإعلام الأردن: استقرار سوريا ركيزة أساسية للأمن الإقليمي الوفد الحكومي المشارك في (FII): زيارتنا ناجحة ومثمرة عندما يصبح الدفء "رفاهية" في مواجهة ارتفاع الأسعار النشء والشباب بين العنف الأسري والضياع الاجتماعي كيف يواجه الشباب السوري فجوة الخبرات بعد سنوات من العزلة؟ ثانوية النقل البحري بطرطوس.. تأهيل مهني لمستقبل واعد    فوضى الدراجات النارية بدرعا تتزايد.. والأهالي يناشدون الجهات المعنية حوادث السير بحلب.. تهديد يوميّ لحياة المواطنين يدنا الأنثوية في البطولة العربية للأندية بعد غياب بطولة درع السلوية.. الوحدة والكرامة في المربع الذهبي بين ضيق الوقت وبناء الثقة.. الحسين يقود حلم الأولمبي السوري في آسيا