الثورة – راما نسريني:

لم تكن المساجد في حلب مجرد دور للعبادة، بل كانت على مر العصور مجالس علم، تُخرّج كبار العلماء والمشايخ للعالم، ولهذا السبب تحديداً كان لها الحصة الأكبر من براميل نظام الأسد المخلوع، ولأن صيحات الثورة البكر، خرجت من حناجر المصلين في مساجد المدينة، عمد النظام المخلوع إلى قصفها بشكل مكثف، وحشي، وممنهج، تعمّد فيه كسر هيبة وقدسية المكان، وتحويله من مصدر للسكينة إلى مبعث خوف وفزع.
مستقبل جيل كامل
الدمار الذي لحق بالمساجد في حلب، لم يقتصر على الأضرار المادية فحسب، بل كان له الأثر الكبير على المستوى الثقافي والفكري للمدينة، إذ لطالما كانت المساجد مراكز علمية، تجمع سكان الحي الواحد في نشاطات عدة، لم تقتصر فقط على حلقات الذكر والدروس الدينية، بل كان لها جوانب تعليمية و اجتماعية مختلفة.
وكانت لخطيب الجامع مكانة كبيرة بين الناس، إذ كان له دور كبير في فض النزاعات وحل الخلافات بين المتخاصمين، في إطار من التعاون المجتمعي والتناغم بين سكان الحي الواحد، فالمساجد كانت أماكن للترابط الاجتماعي، حيث يجتمع الناس في المناسبات الدينية والأعياد.
“كانت المساجد وجهة أطفالنا الأولى، لا لتعلم القرآن والأحاديث فقط، بل لترسيخ القيم والأخلاق الحميدة منذ الصغر” .
فريدة العلي أم لطفلين تقيم في حي سيف الدولة بينت لـ “لثورة”، أن للمساجد أهمية كبيرة بالنسبة لها وتعتبرها مركزاً تربوياً أساسياً لكل طفل قُبيل المدرسة، مشيرةً إلى أن الدمار الحاصل في العديد من المساجد، والذي أدى بطبيعة الحال، لعزوف العديد منها في السنوات الأخيرة عن استقبال الأطفال، قد بدأت آثاره تظهر جلياً في الجيل الجديد، متمثلةً في فقدان للهوية الدينية والقيم المجتمعية على حد سواء، وفقاً لتعبيرها.
بارقة أمل
بعد تحرير البلاد، شهدت المدينة حركة واسعة على صعيد إعادة الإعمار، شملت العديد من المرافق الحيوية كالمدارس والمساجد، إذ كان لبعض المساجد تاريخ عريق يمتد لحضارات مختلفة رحلت، وبقيت آثارها شاهدة على عصور الازدهار والحضارة التي عاشتها مدينة حلب، إذ يحتاج ترميم تلك المساجد، كالجامع الأموي على سبيل المثال، جهوداً متضافرة بين المهندسين المعماريين المتخصصين في ترميم المباني التاريخية، والجهات المختصة، ما قد يطيل عمر عملية إعادة الإعمار والترميم.
فعملية إعادة بناء هذه المساجد لا تهدف فقط إلى إحياء المعالم الدينية، ولكنها أيضاً تمثل خطوة مهمة نحو إعادة بناء المدينة ككل، وتعزيز الهوية الثقافية لشعبها، ولكن عملية الترميم هذه تحتاج إلى الكثير من الجهود والموارد، نظراً لما لحق بالبنية التحتية من دمار هائل. بعض المساجد أصابته أضرار طفيفة جزئية، لم تخف أثره بالكامل، ولكن قسم كبير منها تعرض لدمار هائل طمس معالمه بالكامل، ومحى وجوده من الخارطة العمرانية على الإطلاق، وإن فقدان هذه المساجد لا يُعد خسارة دينية فحسب، بل هو نزيف ثقافي ومعماري يهدد هوية المدينة وذاكرتها الجماعية.
213 مسجداً قيد الترميم
في حديثه لـ “الثورة”، أكد رئيس دائرة المساجد في مديرية الأوقاف بحلب مصطفى أنيس، أن العقبة الأولى في طريق إعادة إعمار المساجد، تكمن في التكلفة المادية المرتفعة، وخاصة في المساجد الأثرية، إذ إن بعض المساجد تبلغ تكلفة ترميمها أكثر من إنشائها من جديد. لافتاً إلى أنه في بعض الأحيان تكون منطقة الجامع مدمرة بالكامل، ولا يوجد تجمع سكني حولها، ما يعوق إعادة إعمارها.
وأكد أن الكثير من الشركات والمنظمات والجمعيات، قد تقدمت بالفعل بكتب رسمية، لمعرفة تكلفة بعض المساجد، بهدف وضع خطط لإعادة إعمارها، و بعضها قد بدأ بالفعل، والآخر يستعد للبدء مع بداية العام الجديد، ولكن هناك قسم من الشركات أعرض عن المشروع بعد رؤية التكلفة الكبيرة لإعادة إعماره.
وأضح أنيس أن هناك 92 مسجداً يحتاج لترميم شامل، و213 مسجداً يحتاج لترميم جزئي. مشيراً إلى أنه خلال هذا العام قد تم ترميم وإكساء 212 مسجداً في حلب، بينما الأعمال مستمرة في 213 مسجداً آخر قيد الترميم.