الثورة- لمى بدران:
استخدام تطبيقات الدردشة في وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، بل وتجذّر لدى عدد كبير من المستخدمين إلى مرحلة لا تحمد عقباها، لأنهم يعتمدون بشكل زائد عليها لتحصرهم في دوائر افتراضية تسبب لهم خللاً نفسيّاً وقيميّاً وبالتالي سلوكيّاً، حيث تزداد قدرة هذه التطبيقات بتضعيف التواصل الإنساني الحقيقي المباشر لتؤدي بشكل أو بآخر إلى أنواع متعددة من الإدمان السلوكي.
يُقارن العلماء إدمان وسائل التّواصل الاجتماعي وضمنها الشات بإدمان المخدّرات، وهي مقارنة تستند إلى أسس علميّة، تؤكّد أنّ هذه التّطبيقات مصمّمة لتكون إدمانيّة، وتشير الدراسات إلى أن المدمنين يرونها أداة للتّحرر، والإفلات من سلطة المجتمع القهريّة، إذ توفّر مساحة للتّعبير عن آرائهم وأفكارهم بحريّة، ما يتيح لهم تشكيل هوية بديلة لا تمثّل حقيقتهم أبداً بل قد تكون أمنياتهم ونقاط ضعفهم الواقعيّة.
وهنا تبرز ضرورة التوعية والمسؤولية المجتمعية من خلال قراءة تجريدية لواقع هذا الإدمان والغوص في الأسباب وسبل معالجتها، لأننا في الوقت الذي يجب أن نلاحظ فيه بأن استخدام تطبيقات الدردشة مثل المسنجر أو الواتس أو تلجرام أو انستغرام… الخ في عالمنا العربي هو أداة في سبيل العمل، وفتح قنوات اتصال سليمة للانفتاح على الثقافات الأخرى أو التواصل مع الأصدقاء والأهل بنطاق الاطمئنان والسلامة، نراها اليوم تتفشى عند المستخدمين من الشرائح المختلفة بأسلوب مفرط و ضار من حيث الوقت المهدور والابتعاد عن الأغراض الرئيسية العملية للشات.
ذات مرة سمعتُ إحدى الفتيات العشرينيات تقول على سبيل المزاح:”ماذا سنقول لأطفالنا في المستقبل… إننا قضينا أغلب عمرنا نستند على الحائط الذي عليه مقبس شاحن الموبايل من أجل أن نشحن أجهزتنا دائماً ونبقى على دردشاتنا الطويلة؟!” إلا أن مزاحها لامس خطورة الموضوع بالنسبة لي، فهي والكثير من أفراد الفئات العمرية المختلفة يجلسون إلى مدة تصل لست ساعات يومياً، لذلك نستطيع القول إنها ظاهرة العصر الحديث المخيفة والتي تؤثر على الفرد والأسرة والمجتمع، فكم من الشباب عانوا من الأعراض النفسية والجسدية من اكتئاب ووهن وانعزال، وكم من بيوت دمرت نتيجة انتشار الخيانة الإلكترونية، وكم من أطفال باتوا ضحايا الانفلات على عالم الإنترنت سواء بالدردشات أو وسائل التواصل الاجتماعي عموماً.
فجوات نفسية واضطرابات عميقة
لتشخيص هذه الظاهرة تحدَّثنا مع المعالِجة النفسيّة والمستشارة الأسرية عزة كردي التي عدّت الإدمان على الشات ظاهرة غير واعية للأسف وتسيطر على حياة الناس المغيبة عقلياً، وإن أبرز الحالات وأصعبها حسب رأيها تكون تحت غطاء الفراغ العاطفي للشباب، إذ تكمن خطورتها بالتعلق المرضي عند الطرفين وأثر التعلق النفسي الذي يدخل صاحبه في انتكاسات نفسية وصراعات لن يخرج منها بسهولة إذا لم يستعين بمعالج نفسي أو استشاري.
وتضيف لنا أن الأسباب الرئيسية لتفشيها هي انخفاض الوعي الفردي والمجتمعي والخلل في العلاقات الأسرية، وعدم توفر بيئة حاضنة تربوية، والنقص في العواطف الإنسانية الأساسية للبقاء كالحب والاهتمام والاحتواء، كذلك الملل والروتين وغياب الأهداف، والتقليد والفضول، والاعتقاد أن الشات هو المنقذ.
تشير المستشارة كردي إلى أن الفئات الأكثر تأثراً هما فئتا اليافعون والشباب، وهذا شيء محزن في حالهم حسب تعبيرها لأنه ينتج فجوات نفسية واضطرابات عميقة على مستوى الشخصية، بالتالي يؤثر على الأداء والسلوك من الأسرة الصغيرة بالتدريج إلى الخارج، وترى بصراحة أن أية محاولات عنيفة أو قاسية لمنع هذه الفئات عن الشات لن تكون مجدية، لأنها ستولد ردة فعل انعكاسية أقوى، لكون الإنسان بطبعه يحب أن يجرب ويستكشف ويعيش تجارب ليتعلم منها، لذلك تدعو لرفع الوعي من كل أطياف المجتمع ابتداء من الأسرة، ومحاولة سد الثغرات قدر المستطاع ليستعيد الجميع حصانته النفسية.
متلازمة رنين الهاتف المحمول والنوموفوبيا والسمومبي
لا شك أن المكبوتين يرون بالدردشات منفذاً يغذّي أوهامهم بشكل مستمرّ، ما قد يعرّضهم دوماً للصدمات والابتزاز والخداع والتشويه الداخلي الذي يحدث خللاً في التوازن النفسي أيضاً، من خلال حسابات تتخفى وراء أعمار كاذبة وأسماء وهمية تجذب الضحايا بادعاءات لا متناهية، لتقع على عاتقنا مسؤولية الكلمة وثقافة التعامل مع الشات بالشكل الصحيح على أن نستخدمه لا أن يستخدمنا ويستهلكنا، فلماذا نجعل من أنفسنا أدوات لتحقيق مطامع منشئي هذه التطبيقات؟! بينما هم يأخذون أرباحهم ويصلون لأهدافهم من نفوس المدمنين بالدرجة الأولى، أي من هؤلاء الذين تحوّلوا إلى مرضى يخافون من عدم وجود تغطية، ومن انتهاء شحن الهاتف المحمول، والانقطاع عن الآخرين، إلى أن يصلوا إلى “متلازمة رنين الهاتف المحمول” (حیث یتوهم الشخص أن الهاتف المحمول یرن في حین أنه لا یرن بالواقع).
يرتبط النوموفوبيا (رهاب فقدان أو غياب الهاتف المحمول) بهذه الحالات الإدمانية أيضاً، وقد يكون عدد كبير من الناس يعانون منه دون أن يشعروا، وكذلك بارتباط آخر للسياق تحوّلَ عدد أكبر من الناس الذين نشاهدهم في الطرقات إلى “سمومبيين”، إذ نصادف في كثير من الأحيان هؤلاء الأشخاص الذين يسيرون في الطريق أو في الأماكن العامة وهم يحدّقون في هواتفهم الذكية، مما يجعلهم يتصرفون كالزومبي ويشكّلون خطراً على أنفسهم وعلى الآخرين.
كسر الأنماط السلوكية الإدمانية
تؤكّد الأبحاث أن التقنيات التي تُعزز الوعي الذاتي فعالة في كسر الأنماط السّلوكيّة الإدمانيّة، إذ يُمكن للمستخدمين مثلاً تطبيق “قاعدة الخمس ثوانٍ”، والتي تتضمن العدّ التنازلي قبل الاستجابة لدافع استخدام الهاتف.
هذه اللحظة من الوعي تُعطي الفرد فرصة لتقييم الحاجة الحقيقيّة لاستخدام التطبيق، ما يُضعف الاستجابة الشّرطيّة المرتبطة بالإدمان، كما يمكن الخروج من كل المجموعات غير المهمة، وتخصيص يوم في الأسبوع دون دردشة، إضافة إلى تعزيز الحذر في الردود كي لا نشعر بأننا مضطرون للرد على كل رسالة تأتي.
هي تفاصيل صغيرة يحتاجها المدمنين وتسهم واحدة تلو الأخرى في خلاصهم من قفص الشات.
لا شكّ أن الظواهر الإدمانية المنتشرة حول العالم، بما فيها العالم العربي، والمجتمعات الأكثر هشاشة تحتاج إعادة نظر في التقييم وتوسيع آفاق الدراسة والعلاج، فلماذا لا نقضي على ظاهرة الإدمان على الشات في أقل اعتبار، ونستثمر الطاقات البشرية في السيطرة عليها؟ خاصة أننا ننحو باتجاه ثورة تكنولوجية أضخم من سابقتها وقد تسعى أن تجبرنا على التنفس من خلال الهاتف المحمول فقط…! هذا كلّه ولم نتحدّث بعد عن (الشات جي بي تي) وغيره من تطبيقات الدردشة الحديثة التي قد تسبب ظواهر جديدة أكثر خطورة مما ذكرت آنفةً إن لم نجيد استخدامها.