عنوسة الرجال.. حكاية جيلٍ يعيش بين العجز والخيبة

الثورة- تحقيق : هلال عون :

لم تعد كلمة “عنوسة” حكراً على النساء كما درجت العادة في مجتمعاتنا العربية، فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة جعلت هذه الصفة تُطلق أيضاً على الرجال الذين تجاوزوا سناً معيناً دون زواج، لأسباب تتراوح بين المادية والنفسية والاجتماعية، وأحياناً لأسباب شخصية.

إنها عنوسة، فرضتها الظروف الاقتصادية القاسية، وعمّقتها التحولات الاجتماعية والثقافية التي غيّرت نظرة الرجل إلى الزواج ومعناه.

ففي الماضي، كان تأخر زواج الشاب يُفسَّر بالتحضير والاستعداد لتحمّل المسؤولية، أما اليوم، فقد أصبح التأخر – أو العزوف – حالةً اجتماعية قائمة بذاتها عند البعض، يصفها الباحثون بأنها ظاهرة مقلقة آخذة بالاتساع، فالشباب العربي يواجه واقعاً مركّباً، عناصره هي: البطالة المتفشية، الدخل المحدود، الغلاء المتصاعد في تكاليف المعيشة، والمجتمعات التي لا تزال تحاكم الرجل بمعايير القدرة المادية قبل أي شيء آخر.

في هذا التحقيق نتابع واقع عنوسة الرجال، أسبابها والتغيرات التي طرأت على مفهوم الزواج وتكوين الأسرة.

عوامل متشابكة

شبابٌ تجاوزوا الثلاثين أو الأربعين، يمتلك بعضهم عملاً جيداً ودخلاً مقبولاً، وآخرون بالكاد يؤمّنون احتياجاتهم اليومية، لكنهم جميعا يشتركون في القلق ذاته، ألا وهو الزواج الذي لم يعد حلماً سهلاً، بل بات عبئاً مؤجلاً، أو خياراً غير مرغوب فيه.

يقول الباحثون في علم النفس والاجتماع: إن هذه الظاهرة تنشأ من تفاعل عوامل متشابكة، فالأسباب الاقتصادية لا يمكن فصلها عن التحولات الثقافية والنفسية، فالشاب الذي يعجز عن الاستقلال المادي يجد نفسه غير قادر على الزواج، لكنّ المشكلة لا تقف عند حدّ الفقر، بل تمتد إلى تغيّر القيم والمعايير، وظهور بدائل سلوكية جديدة تحاكي الحرية الفردية وتؤجل فكرة الالتزام.

الخبير الاجتماعي رضوان، يشدّد على أن تأخر سن الزواج لدى الشباب أصبح نتيجة طبيعية للواقع الاقتصادي الراهن.

ويرى أن ارتفاع تكاليف المعيشة، وضعف الأجور مقارنة بمتطلبات الحياة، والبطالة التي تدفع الآلاف من الخريجين إلى الجلوس في منازلهم دون مورد ثابت، هي عوامل تؤثر سلباً في قرارات الشباب المتعلقة بالزواج.

ويلفت إلى أن إيجار منزل صغير في العاصمة أو المدن الكبرى يحتاج اليوم إلى دخل يعادل أضعاف متوسط الراتب الشهري، بل حتى في الأرياف باتت أجرة المنزل تعادل راتب موظف من الدرجة الأولى، فضلاً عن تكاليف الأثاث والمهور ومصاريف الحفل، كل هذه الظروف الصعبة، والمستجدة في معظمها، تجعل الكثيرين من الشباب يعزفون عن فكرة الزواج من أساسها، مفضلين تأجيلها إلى أجل غير مسمى.

شهادات من الواقع

حيدر. ع (مدرّس) يقول: “كنت أحلم بالوظيفة كشرط للاستقرار ومن ثم للزواج، وبعد أن توظّفتُ اصطدمتُ بالواقع، وأدركتُ أن ما أتقاضاه لا يكفي سوى لمعيشة بسيطة، لذلك فإن فكرة الزواج بالنسبة لي باتت مؤجلة، لأنني لا أستطيع أن أعد إنسانة بحياة كريمة وأنا غير قادر حتى على إعالة نفسي، ولا على تأمين بيت مستقل”.

ويتجاوز المهندس يامن شباط، في رؤيته ما طرحه المدرّس حيدر، إذ إنه يرى أن الجانب الاقتصادي ليس وحده المسؤول، فكثير من أصدقائه يملكون إمكانيات جيدة، لكنهم يرفضون الزواج خوفاً من المسؤولية، ويقرّرون بأن الحرية أهم من الالتزام، خاصة بعدما شاهدوا مشاكل أزواج من حولهم.

ضياء خضور، (مدرّس) يوضح أن غلاء المهور يمثل عائقاً كبيراً، يقول: “طلبوا مني مهراً يساوي ما أوفره من مرتبي خلال عشر سنوات! فكيف لشاب في مثل وضعي أن يكوّن أسرة؟”.

سامر زودي ( أعمال حرة) يختصر الأمر بقوله: “الزواج أصبح حلماً بعيد المنال، حتى لو وفرتُ بعض المال، أين السكن؟ وكيف يمكنني الاستقرار دون منزل الاستقرار؟”، في الماضي، كان تأخر زواج الشاب يُفسَّر بالتحضير والاستعداد لتحمل المسؤولية، أما اليوم، فالأمر مختلف.

تقول الإحصائيات والدراسات الاجتماعية: إن ظاهرة عزوف الرجال عن الزواج في تصاعد مستمر، وإن أسبابها لا تقف عند حدود الفقر أو البطالة، بل تتجاوزها إلى تغيّر في القيم والنظرة إلى مفهوم الأسرة والالتزام، فالشاب الذي كان يحلم ببيت وأسرة، بات يفكر أولاً بالحرية الشخصية والاستقلال.

ومن كان يعجز عن الزواج بسبب قلة المال، أصبح يجد في التكنولوجيا والعلاقات العابرة بديلاً سهلاً عن الزواج، ولو مؤقتا.

هكذا تتداخل الأسباب الاقتصادية والنفسية والثقافية في إنتاج ظاهرة معقّدة اسمها، عنوسة الرجال.

ذبل الحلم

باسل بدور (موظّف حكومي)، في الأربعين من عمره، يتحدث بنبرة يائسة: ضاع شبابي، وأنا أركض وراء المال لأتزوج، وحين جاء المال، كبرتُ في العمر، وصارت خياراتي صعبة.

كنتُ أرى الزواج خطوة طبيعية في مسار الحياة، لكنني اليوم أراه عبئاً لا ضرورة له، فقد تعودتُ على نمط معيشتي، وانشغلتُ بالعمل حتى امتلأت حياتي بالروتين والوحدة، ثم فقدتُ الحافز.

أسمع من زملائي عن خلافات الأزواج وتكاليف الأبناء، فأزداد اقتناعاً بأن العزوبية أهون، وراحة البال أفضل.

هكذا تحوّل الحلم القديم إلى ذكرى باهتة، وحلّ محله انطفاء داخلي يسميه “راحة البال”.

أمير. ن، موظف، في بداية الخمسينيات من عمره، يقول: نعم للاستقرار، لكن الحرية أهم.. تجارب عديدة لأصدقائي جعلتني أخشى الالتزام بعلاقة زواج، قد تؤدي إلى وجع الرأس، لكنني أعترف، في لحظات الصراحة بأنني أشعر بالوحدة حين أرى أصدقائي مع أطفالهم.

محمد. ع ، يوجز مشكلته بكلمة واحدة، هي السكن، ويتساءل: كيف أتزوج وأنا بلا بيت؟ يحاول محمد، منذ سنوات الحصول على شقة صغيرة أو حتى استئجار، لكن الأسعار تقف كجدارٍ صلد في وجهه.

ومع كل عام يمرّ، يتضاءل الأمل ويكبر الإحباط. يقول: كلما أردت أن أبدأ من جديد، اصطدمت بالواقع.. الزواج بات حلماً صعب التحقيق.

هروب باسم الحرية

في الجهة الأخرى، يقف غسان. ش، حلّاق رجالي، ممثلًا لفئة الشباب الذين يعزفون عن الزواج رغم قدرتهم عليه.

يقول بثقة: لا أريد أن أتحمل مسؤولية أحد، أحب حياتي كما هي، بلا قيود، بالنسبة لغسان، الزواج يعني التزامات يومية وقيوداً اجتماعية، ونظاماً تقليدياً، وهو – كما يقول – لا يحب أن يكون تقليدياً.

ومع ذلك، لا يخفي أنه يشعر أحياناً بالخواء، لكنه يبرر ذلك بالقول: “كل شيء له ثمن”.

يزن د. سائق سيارة أجرة، أحب فتاة، لكنه لم يتمكن من الزواج بها لأن أهلها اشترطوا السكن المستقل، وهو شرط لم يستطع تلبيته مع غلاء المساكن والإيجارات، يقول يزن: الناس لا يدركون أننا نعيش أزمة.. لو ساعد الأهل أبناءهم وخففوا الطلبات لتغيّر الحال.

سمير نور الدين، (موظف)، يعيش المعاناة نفسها، راتبه بالكاد يغطي احتياجاته، فكيف يؤمّن حياة كريمة لعائلة؟، ويرى أن الزواج اليوم يحتاج إلى معجزة اقتصادية، ويضيف: نحن جيل يعيش على الحد الأدنى من الأمل.

المشكلة ليست اقتصادية فقط

صحيح أن الغلاء والبطالة في صدارة أسباب عنوسة الرجال، لكنّ باحثين اجتماعيين يرون أن المشكلة أعمق، فالمجتمعات العربية تشهد تحوّلاً في مفهوم الزواج ذاته، فلم يعد الزواج بالنسبة إلى كثيرين واجباً اجتماعياً أو دينياً، بل أصبح خياراً مؤجلاً، في نسف لتقاليد، هي في جزء منها فطرية وطبيعية، كما أن العولمة ووسائل التواصل غيّرت أولويات الشباب، فصارت العلاقات أكثر سطحية، والزواج التقليدي أقل إغراء، حتى إن مفهوم الأسرة المستقرة بدأ يفقد بريقه أمام نماذج جديدة من الحياة الفردية.

الاختصاصية الاجتماعية، الدكتورة رشا شعبان، ترى أن عنوسة الرجال أخطر من عنوسة النساء، لأنها تؤدي تلقائياً إلى تأخر زواج الفتيات أيضاً، وتفتح الباب لانحرافات أخلاقية ومشكلات نفسية متفاقمة، تقول: العزوف عن الزواج يعني في جوهره حرماناً من إشباع حاجة فطرية، فحين يُغلق باب الحلال، تُفتح أبواب الحرام، وتبدأ المشكلات النفسية والاجتماعية.

وتضيف: إن ضعف الوازع الديني، وتأثير الإعلام الغربي، وثقافة الحرية الفردية، جعلت الشباب أكثر تلهفاً لتقليد نموذج الحياة الغربية التي تفصل بين المتعة والمسؤولية، كما أن الأزمة الاقتصادية في سوريا ضاعفت حجم الظاهرة، فالبطالة المرتفعة، وغلاء المعيشة، وانخفاض الدخول، جعلت الزواج مشروعاً صعب التنفيذ عند نسبة كبيرة من شباب اليوم.

انعكاسات على المجتمع

وراء هذه الظاهرة آثار لا تُرى بالعين المجردة، كارتفاع معدلات الاكتئاب بين الشباب، زيادة العلاقات غير المستقرة، ضعف الروابط العائلية، وتراجع الإقبال على تكوين الأسر.

المجتمع الذي يؤجل الزواج، هو مجتمع يشيخ ببطء ويضعف من الداخل، فحين تتراجع فكرة البيت والعائلة تفقد القيم الاجتماعية تماسكها، ويصبح الأفراد أكثر عزلة وهشاشة.

بين الحرية والمسؤولية

ليست عنوسة الرجال مجرد نتيجة لظروف اقتصادية قاسية، بل مرآة لتحوّل فكري وثقافي أعمق، فنحن أمام جيل جديد، يرى في الزواج مشروعاً محفوفاً بالخسائر، فيختار تجنّبه، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه: ما البديل الحقيقي عن الأمان العاطفي والاجتماعي الذي يمنحه الزواج؟ ربما لا يمكن تحميل الشباب وحدهم مسؤولية الظاهرة، فالمجتمع بأكمله ساهم في تعقيد الزواج وجعله معركة اقتصادية واجتماعية لا تُحتمل.

ما يحتاجه هذا الجيل هو مراجعة شاملة لقيمنا حول الزواج والأسرة، وتبسيط شروط الارتباط، وإعادة الاعتبار لمعناه الإنساني والأخلاقي، بعيداً عن المظاهر والتكاليف.

إن عنوسة الرجال، كما ترى الخبيرة الاجتماعية رنيم ديوب، ليست مجرد تأخر في الزواج، بل أزمة قيم وتحدٍّ اجتماعي يتجاوز الأفراد إلى بنية المجتمع ذاته.

هي حكاية جيل يعيش بين العجز والخيبة، بين الرغبة في الحب والخوف من المسؤولية، بين واقعٍ اقتصادي خانق وثقافة جديدة، لا تعطي الأسرة قيمتها التي تستحقها.

آخر الأخبار
 تنقيب وحفر عشوائي.. ضبط تعديات على مواقع أثرية بدرعا عدلية دمشق تحت المجهر: 100 كاميرا مراقبة لتعزيز الشفافية القضائية ظهرٌ صغير.. وحملٌ كبير.. من المتضرر؟ التعاونيات درع النحالين في مواجهة التغيّر المناخي البيع بالوزن.. حل اقتصادي أم تحد للسوق المحلي ؟ استغلال معلن فياض: مبارك لجماهير حمص الفداء ونحذو حذو كرة السلة الفيفا في انتخابات اتحاد الكرة.. رسالة واضحة المعاني بطولة النصر والتحرير لكرة القدم في حلب الطفل قصي .. صوت يهزم الحزن بالغناء دفعة جديدة من المعهد التجاري الثاني نحو المستقبل الأرق العائلي.. جذوره وأدوات التشخيص  كيف نتغلب على هوس الإنجاز؟  طفولة تحت المجهر.. قراءة تربوية في جذور العنف المدرسي عنوسة الرجال.. حكاية جيلٍ يعيش بين العجز والخيبة بين رغبة الاستثمار وهواجس السياسة.. سوريا تستحوذ على أدوات التمويل البديلة توزيع ألبسة شتوية على مهجري السويداء في جمرين وغصم بدرعا   زيارة مفاجئة واعتذار وزير الصحة..  هل يعيدان رسم مستقبل القطاع؟   5 آلاف سلة غذائية وزّعها "الهلال  الأحمر" في القنيطرة آليات لتسهيل حركة السياحة بين الأردن وسوريا