بين رغبة الاستثمار وهواجس السياسة.. سوريا تستحوذ على أدوات التمويل البديلة

الثورة – نور جوخدار :

مثّل حضور الرئيس أحمد الشرع وفريقه في وزارة الخارجية السورية في قمة “المناخ” وتعدد لقاءاتهم الثنائية، فرصة دبلوماسية ذات قيمة رمزية وعملية في آن واحد، لكن القيمة الحقيقية لهذه التحركات تقاس بمدى قدرتها على تحويل التصريحات والبيانات إلى اتفاقات ملموسة، تجلب تمويلاً فعلياً وتؤسس لحماية بيئية واقتصادية للسوريين.

فبين الإشارات الدبلوماسية والنتائج الواقعية يكمن الفرق بين إعلانٍ رمزي ومسارٍ تغييري قادر على التأثير فعلًا على مستقبل سوريا البيئي والاقتصادي.

الجولة الحالية للرئاسة السورية تضع في حقائبها مسارين متوازيين، الأول: مسار التقارب العربي الذي يفتح أبواب التمويل، والآخر هو المسار الغربي الذي كان سابقاً يفرض قيوداً صارمة؛ ولكن: هل يشكل حضور القمة المناخية مجرد صفحة جديدة في الدبلوماسية السورية، أم إنها بوابة فعلية لتمويل إعمار يُقدّر بمئات المليارات؟ وكيف تتحول هذه الإشارات الدبلوماسية إلى وقائع ملموسة؟ وما جدوى الانفتاح الدولي إن استمرت العقبات القانونية والبيروقراطية تقف حاجزاً أمام تدفق الاستثمارات؟

الإعمار والتمويل

يُقدّر البنك الدولي تكلفة إعادة الإعمار في سوريا للفترة 2011-2024 بنحو ‎216 مليار دولار كحدّ أدنى، ضمن نطاق تقديري بين 140 إلى 345 مليار دولار، هذه الأرقام تبرز ضخامة التحدي الاقتصادي والمادي أمام الدولة السورية، كما يُظهر التقييم أن الحرب ألحقت أضراراً بنحو ثلث إجمالي رأس المال السوري قبل النزاع، حيث بلغت الخسائر المادية المباشرة في البنية التحتية والمباني السكنية وغير السكنية بنحو 108 مليارات دولار.

وكانت البنية التحتية الأكثر تضرراً، حيث بلغت نسبتها 48% من إجمالي الأضرار (52 مليار دولار)، تليها المباني السكنية (33 مليار دولار)، ثم غير السكنية (23 مليار دولار)، فيما تصدرت محافظات حلب وريف دمشق ودير الزور وحمص قائمة المناطق المتضررة.

وبحسب البنك الدولي، تحتاج سوريا إلى ما لا يقل عن 75 ملياراً دولار لإعمار المباني السكنية، في حين ستتطلب المنشآت غير السكنية 59 مليار دولار، و82 مليار دولار للبنية التحتية.

مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي وافق في وقت سابق على منحة تمويلية بقيمة 146 مليون دولار أميركي من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) ، لدعم مشروع طوارئ كهرباء سوريا (SEEP) لإعادة تأهيل خطوط النقل ومحطات المحولات الكهربائية المتضررة، وتقديم المساعدة الفنية لدعم تطوير قطاع الكهرباء وبناء قدرات مؤسساته.

انفتاح وتمويل

كان الرئيس أحمد الشرع قد أعلن أن سوريا اجتذبت نحو 28 مليار دولار من الاستثمارات منذ سقوط النظام البائد، مؤكداً في كلمته خلال “منتدى الرياض الاقتصادي” بحضور ولي العهد السعودي الأمير بن سلمان، أن سوريا “ستعيد بناء كل حجرٍ دُمّرَ”، في إشارة إلى بدء ترجمة مذكرات التفاهم العربية والدولية إلى عقود استثمار فعلية، ما يعزز هذا التوجه على أن التمويل ما بعد انتصار الثورة السورية يبدأ يتبلور فعلياً.

وفي هذا السياق، أوضح الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو، أن المجتمع الدولي كان يضع شرط ضخ التمويل الالتزام بضمانات حقيقية للشفافية والحوكمة، مضيفاً أن المؤسسات المانحة تفرض رقابة على الإنفاق، وهو ما ظهر في منحة السعودية وقطر البالغة 80 مليون دولار والتي تم توزيعها عن طريق منظمة الأمم المتحدة الإنمائية “UNDP” مباشرة من دون وساطة حكومية.

وأضاف شعبو في تصريح لـ “الثورة”، أن “الخطوات العملية التي يجب أن تتخذها الحكومة السورية لتعزيز الشفافية والحوكمة بما يفتح الباب أمام التمويل الدولي هي إجراء تقارير دورية مفصلة عن عمليات الصرف والإنجاز مع نشر كشوفات مالية واضحة، وتفعيل منصات رقمية للمتابعة والرقابة لضمان ثقة الممولين ومنع الهدر أو الفساد”.

وفي حديثه عن الرقابة الدولية على إدارة التمويل داخل سوريا، يرى الخبير الاقتصادي أن أغلب الشروط التي تطلبها المؤسسات المانحة موجودة فعلًا على أرض الواقع، فالحكومة السورية قامت بتحرير سعر الصرف، وإزالة الدعم، وقلصت دور الدولة لصالح القطاع الخاص، وفرضت نظام الضرائب.

وأضاف شعبو أن سوريا استوفت فعلياً معظم الشروط الاقتصادية التي تتطلبها المؤسسات المالية الدولية، وأن أي مفاوضات مستقبلية حول التمويل ستدور حول ضمانات الشفافية والحوكمة أكثر من أي شيء آخر.

شرعية مناخية فورية

مشاركة دمشق على أعلى مستوى في قمة المناخ منحتها “شرعية مناخية فورية” لإطلاق مفاوضات تمويل مع آليات قائمة أصلًا، وفق ما أكده المختص بالقانون الدولي والعلاقات الدولية، المعتصم الكيلاني.

أبرز هذه الآليات هي، “صندوق الخسائر والأضرار” الذي جرى تشغيله في COP28، و”الصندوق الأخضر” للمناخ (GCF) عبر برنامج الاستعداد والدعم التحضيري، وبوابة “بنك التنمية الإسلامي” (IsDB) لتمويل مشروعات العمل المناخي.

وبيّن الكيلاني أن سوريا طرف في اتفاق “باريس للمناخ” وقد أودعت مساهمتها الوطنية (NDC)، مما يتيح لها الوصول إلى منح “الاستعداد وتعبئة مشاريع تكيّف وطاقة نظيفة بشكل تدريجي”.

ورداً على سؤال أن يتحول الزخم الدبلوماسي من “تصريحات رمزية” إلى “اتفاقات ملموسة” خلال الأشهر المقبلة قال الكيلاني: “بناء على التجارب السابقة تظهر أن الزخم الدبلوماسي قادر على توفير قناة جاهزة لصياغة مذكرات تفاهم ومشاريع سريعة الأثر في التكيّف وبناء القدرة على الصمود، إذ حُسِم تشغيل صندوق الخسائر والأضرار وتدفقت تعهدات التمويل منذ لحظة القرار”.

كما أن “بنك التنمية الإسلامي” أعلن في 2025 رغبته بتوسيع التعاون لتمويل التعافي والخدمات الأساسية، وهو إطار يمكن ترجمته إلى اتفاقات قطاعية (مياه، صحة، طاقة لامركزية) إذا اكتملت المتطلبات الفنية (دراسات جدوى، وضمانات الشفافية).

الزخم المناخي عالمياً انتقل من العموميات إلى تصميم أدوات تنفيذ فعلية، وسوريا قادرة على التقاط هذه “النافذة” إذا ربطت حضور القمة بحزمة مشاريع جاهزة للتنفيذ.

العقبات القانونية والإطار الغربي

وعن العقبات السياسية أو القانونية التي قد تواجه سوريا في توقيع مذكرات تفاهم تمويلية مع مؤسسات دولية، أوضح المختص القانوني، أن العقوبات الأميركية OFAC والأوروبية ما تزال عقبة جزئية، رغم وجود استثناءات إنسانية وإرشادات تسهّل الأنشطة ذات الطابع الإنساني/الإنمائي بشروط ترخيص أو تدقيق.

كذلك، فإن تعليق المساعدات الأجنبية من جهات كبرى (على غرار البنك الدولي) حدّ تاريخياً من تدفق التمويل السيادي، والحل يكمن في هيكلة مشروعات عبر كيانات منفصلة معتمدة دولياً، وضمان تتبع صارم لتدفّقات الأموال، مع استثمار الاستثناءات المرعيّة والقنوات المتاحة للمناخ والإنعاش الخدمي بما يتوافق مع معايير الامتثال المالي الدولية.

ولفت الكيلاني إلى أن سوريا قادرة على بناء تحالفات تمويل مناخية بديلة من خلال محورين عمليين، الأول: التمويل متعدد الأطراف من الجنوب عبر تعزيز الشراكة مع “بنك التنمية الإسلامي” مع شركائه لتمويل مشاريع محلية بمنصّات إقليمية “طاقة متجددة صغيرة، ريّ ذكي، صحة مناخية”.

أما المحور الثاني، فهو الولوج إلى أدوات مخصّصة للهشاشة والاستفادة من التوجيهات الحديثة داخل منظومة المناخ التي تحثّ “الصندوق الأخضر” وسواها على تمويل البلدان الهشّة والمتأثرة بالنزاعات، إلى جانب مبادرات مثل برامج الدول الهشّة والمتأثرة بالنزاع (FCS) في سلاسل “الأرصاد والإنذار المبكر” الداعمة لخفض الخسائر.

سوريا تبدو من وجهة نظر الكيلاني، أمام مسارين متوازيين في علاقاتها الاقتصادية والمناخية الجديدة، فإقليمياً، عادت سوريا إلى “جامعة الدول العربية” في 2023، ما فتح باب المبادرات الثنائية والإغاثية والإنمائية العربية مع اشتراطات حوكمة تدريجية.

أما غربياً، فما تزال القيود القانونية والمالية قائمة، الإطار الأوروبي جدّد التدابير مع تسهيلات ذات طابع إنساني، فيما أبقى الإطار الأميركي على قيوده مع منح تراخيص مشروطة ذات طابع إنساني إنمائي، وبالتالي فالنتيجة العملية تتمثل في مسار تقارب عربي انتقائي يمكن البناء عليه، يقابله تحفّظ غربي قانوني لا يمنع بالكامل العمل المناخي شرط أن تُدار المشاريع وفق معايير شفافية وتدقيق.

وكان وزير المالية، محمد يسر برنية، أكد في وقت سابق من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم أن مشاركة سوريا في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين أسفرت عن تفاهمات استراتيجية، تشمل إصلاحات مالية ومصرفية وإحصائية وإدارة الدين، مع بدء زيارات بعثات فنية لدمشق، إلى جانب برامج منح بقيمة مليار دولار خلال ثلاث سنوات، وزيارات بعثات فنية في قطاعات الطاقة والمياه والتعليم والصحة، وإعادة تفعيل العلاقات مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC) ووكالة ضمان الاستثمار (MIGA)، مع فتح مكتب دائم للبنك في دمشق.

ارتباط إعادة الإعمار بالبيئة والمناخ

تربط تقارير دولية، منها تقرير “لوموند” الفرنسية بين التغير المناخي وإعادة الإعمار الزراعي في سوريا، إذ يعاني المزارعين مثلا في منطقة دير الزور من الجفاف وتراجع موارد المياه، بينما مبادرات مثل مؤسسة “Syria Resilience Initiative” تعمل على برامج “القدرة على التكيّف المناخي (Climate Resilience) لتحسين سبل العيش عبر الزراعة والطاقة الشمسية والمشاريع الصغيرة، بما يعزز الصمود المحلي أمام الصدمات البيئية والاقتصادية.

هذا يرجع لأن سوريا تُعاني من إحدى أكثر الأزمات تعقيداً في العالم، فيحتاج 16.7 مليون سوري اليوم إلى مساعدات إنسانية، وتتفاقم احتياجاتهم بسبب صعوبات النزوح، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتفاقم الصدمات البيئية، ويتجلى هذا بشكل خاص في أزمة المياه في سوريا، حيث تُمثل ما يُقدر بنحو 87 بالمئة من استخدام المياه.

وبحسب صحيفة “ذا ناشيونال”، فإن نجاح هذا يتوقف على تنفيذ إصلاحات محلية وبنيوية ومؤسسية تتسم بالمصداقية والشفافية، وتحتاج سوريا إلى برنامج شامل من صندوق النقد الدولي ودعم من صندوق النقد العربي والبنوك المركزية الخليجية، ربما من خلال مقايضات البنوك المركزية وخطوط تمويل التجارة، وإعادة بناء مؤسسات البنك المركزي، والرقابة المصرفية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

كما يجب إنشاء نظام نقدي ونظام دفع جديد، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي، وإعادة تمويل البنوك، مع السماح للبنوك الخاصة (بما فيها الأجنبية) بالظهور مجدداً، بالتوازي مع الحفاظ على سعر صرف الليرة السورية عائماً حتى استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي، بما في ذلك من خلال الإصلاح المالي وتوفير التمويل الدولي للتجارة.

آخر الأخبار
الصحة السورية بين النداء الدولي والاستحقاق الوطني إدارة نفايات الطاقة الشمسية خطوة أساسية لضمان الاستدامة سوريا تواجه ذروة الجفاف  طريق تعافي الصناعة المحلية.. طويل وشائك   تنقيب وحفر عشوائي.. ضبط تعديات على مواقع أثرية بدرعا عدلية دمشق تحت المجهر: 100 كاميرا مراقبة لتعزيز الشفافية القضائية ظهرٌ صغير.. وحملٌ كبير.. من المتضرر؟ التعاونيات درع النحالين في مواجهة التغيّر المناخي البيع بالوزن.. حل اقتصادي أم تحد للسوق المحلي ؟ استغلال معلن فياض: مبارك لجماهير حمص الفداء ونحذو حذو كرة السلة الفيفا في انتخابات اتحاد الكرة.. رسالة واضحة المعاني بطولة النصر والتحرير لكرة القدم في حلب الطفل قصي .. صوت يهزم الحزن بالغناء دفعة جديدة من المعهد التجاري الثاني نحو المستقبل الأرق العائلي.. جذوره وأدوات التشخيص  كيف نتغلب على هوس الإنجاز؟  طفولة تحت المجهر.. قراءة تربوية في جذور العنف المدرسي عنوسة الرجال.. حكاية جيلٍ يعيش بين العجز والخيبة بين رغبة الاستثمار وهواجس السياسة.. سوريا تستحوذ على أدوات التمويل البديلة