ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
هدأت الفورة الغربية حيال اللاجئين، وانطفأت الحماسة الألمانية أو كادت، وعادت الدول الأوروبية إلى التخندق الذي تخلت عنه لبعض الوقت، فوجدت نفسها، أو معظمها على الأقل، وهي تتمترس في المربع الأول أكثر مما كانت عليه،
وسط انزياح يكاد يكون شاملاً باتجاه الحديث عن مقاربات لا تستطيع فيها العواطف أن تحجز مكانها، ولا بمقدور الكلام المعسول أن يغطي على النيات المبيتة التي اضطرت أخيراً للإفصاح عن مكنونات العقل الأوروبي.
المجر تهدد وتتوعد.. والنمسا قلقة وترفع عريضة شكوى.. وبريطانيا تلوّح بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وحتى ألمانيا تشدد الإجراءات على حدودها ولم تعد مفتوحة كما كانت.. والحبل على الجرار، بينما الآتي قد يكون أبعد من ذلك بكثيـر، حيث المواقف العاصفة لم تتعدَّ كونها زوبعة في فنجان كادت أو تكاد تفرغ ما في جعبتها، وبازار المتاجرة بمعاناة اللاجئين يضع آخر مساوماته على خط الصفقة الأخيرة قبل إغلاق الموسم نهائياً.
ملامح المشروع الغربي لم تكن محصورة في إثارة موضوع اللاجئين، ولم تكن أوروبا وحدها المتورطة فيه، ولا هي المقرر الحاسم في ارتداداته وتبعاته، وبالتالي سيكون من المبكر الجزم بأن التغيير الأوروبي سيقفل على القضية لتسجل باسم مجهول كما جرت العادة في قضايا إنسانية سابقة، وقد تكون في أخرى لاحقة، ومؤشرات التوظيف السياسي لم تقفل مخارجها ومداخلها، بحكم أن القرار الأوروبي يبقى محكوماً بما هو خارجه، والحديث عن استخدام القوة ضد المهربين لا يحمل مؤشرات جدية، ولا يقوى على الابتعاد عن سياق النفخ في القربة المثقوبة، لأنه لم يتطرق إلى الدول التي تدير تلك الشبكات وفي مقدمتها تركيا ممثلة برئيسها أردوغان وحكومته.
ربما كانت هي المعضلة القائمة اليوم على لائحة الاتهام الأساسية المرفوعة علناً، والمجهزة للبت في تفاصيلها، حيث الأوروبيون الغارقون في انقسامات الأطماع الفردية سيكون من الصعب عليهم التوحد في مصالح الدور الجماعي على المسرح العالمي، لأنهم كانوا مجرد «كومبارس سياسي» في لعبة أخطر وأبعد، لا تكتفي أميركا بإدارتها بقدر ما تضيف إليها وتسحب منها، حسب الحاجة ووفق الرغبة القائمة، فيما لعبة الأرقام وشيطنتها حاضرة بأصابع المنظمة الدولية وهيئاتها التي تبشّر الأوروبيين بأكثر من مليون مهاجر إضافي حتى نهاية العام، فهل شربت أوروبا المقلب وحدها، أم كانت على علم مسبق لدى بعض دولها على الأقل، وساهمت في مغافلة الآخرين حتى تنتهي الزوبعة..!!
قد يكون من المبكر الجزم بأن المسألة ستتوقف هنا، وبالتالي من المنطقي الانتظار لبعض الوقت حتى ترتسم خطوط الاشتباك والتقاطع في شكلها النهائي، على ضوء مقاربات تبدو أوروبا في عجلة من أمرها لحسم ما يدور في أروقة ودهاليز الأميركيين الذين يتشفون من الأوروبيين، ويضعون مزيداً من الاشتراطات على مساعدتهم في الورطة التي بدت أكبر من قدرة القارة العجوز على استيعابها، وهي الطامحة لتجديد شبابها عبر عملية انتقائية كانت فيها شعاراتها الضحية الأولى، وسيكون استقرارها ووحدة قرارها التالية المقدمة على سواها، في ظل سجال أوروبي ترتفع فيه وتيرة الاتهام، وتتصاعد على تخومه مخاوف وعوامل القلق من انقلاب السحر، لتتحول دموع السياسيين الأوروبيين إلى قرينة على تباكيهم الأجوف والمتهور.
فإذا كان التوظيف الأوروبي للمسألة قد حقق مراده الأولي بأن تمكنت بعض دوله النافذة من تحقيق مكاسب شخصية وفردية على حساب دور وموقع الاتحاد بدوله مجتمعة، عندما باعت واشترت علناً ومن دون حرج في قضية اللاجئين تحت عناوين إنسانية مخادعة وكاذبة، فإنه من المحسوم عملياً أن باقي دوله المتضـررة لن يكون بمقدورها أن تبقى خارج دائرة التجاذبات والانعكاسات الكارثية المنتظرة، وستدفع ثمن مغالاة كبارهم بدءاً من ألمانيا وليس انتهاء بفرنسا وبريطانيا، كما ستضطر لدفع فاتورة أخطاء أولئك «الكبار» السياسية حين جارتها «صغارها» في مواقفها المتجنية، وفي أفضل الأحوال التزامها الصمت على ما اقترفته تلك الدول.
عند هذه النقطة الفاصلة، يبدو أن المقاربات الأوروبية ستشهد صراعاً متزايداً على جبهات مفتوحة، حيث هدوء الفورة المخادعة والزوبعة الكاذبة، يقابله على الطرف الآخر عاصفة من الخلافات والانقسامات التي تكشف ما تبقى من مفاصل الضعف والترهل في القارة العجوز، التي تتحضر لفصل أولي تسدد من خلاله أولى تبعات استيقاظ المطامع الاستعمارية المتأخرة، والتي قدمت نفسها بصورة قد تكون الأسوأ في تاريخ العلاقات الدولية حتى الآن.
هوت الشعارات أو انزوى رافعوها للاستثمار السياسي، على حين ترتفع على الجهة الموازية ملامح تسخين في المواجهة، التي لا تكتفي بشق الصف الأوروبي بقدر ما تؤسس لمرحلة من الصراعات المستترة داخل دوله، وقد تُوقظ ما نام منها.. وتُعيد ما رحل، وتُعجّل بما هو مؤجل منذ عقود خلت، حيث أوروبا التي نام سياسيوها على أوهام استعماريتهم ومطامع الاستثمار السياسي في مأساة اللاجئين، يستيقظون اليوم على مأزق المشكلات المتفجرة في داخلهم، حيث لا تنفع معها الشعارات ولا تفيد الدموع، فحين يذوب ثلج التباكي الأوروبي سيبان بالضرورة مرج أكاذيبهم وينفضح بيدر تجارتهم.
a.ka667@yahoo.com