ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
بين التسريبات المنسوبة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري حول المقاربة الأميركية لوجود داعش، واعترافات مسربة لمطلق النار في مطار فلوريدا بالضغط عليه من الاستخبارات الأميركية للانضمام للتنظيم، تتقاطع الأدلة وتتقارب المعطيات لتميط اللثام عن فصل من فصول الدور الأميركي في إنشاء وتحضير وتوظيف التنظيمات الإرهابية والسقف الذي تعمل تحته،
وعلاقة ذلك بخرائط التحالفات الناشئة، وبنقاط الاشتباك المستجدة بين من كانوا حلفاء حتى الأمس وشركاء حتى اليوم..!!
قد لا يكون التزامن هنا مقصوداً بحد ذاته، ولا التوقيت هو المستهدف بعينه، وإن جاء أسرع مما كان متوقعاً، لكنه يمهد على الأقل لسلسلة قادمة من الاعترافات والقرائن على الدور الأميركي في تصنيع داعش، ويسلط الأضواء على قضية طالما شكلت حتى وقت قريب واحدة من طلاسم السياسة الغربية وألغاز إعلامه، المبنية على تقديم تساؤلات وطرح استفسارات غيبية تميل بطبيعتها إلى تمييع الموقف، بحيث تتحول أحجية نشوء داعش إلى ضرب من العبث السياسي والإعلامي، في وقت لم يغب عن أعين الكثير من المتابعين بعض الألغاز التي تشير إلى الأصابع الأميركية.. وتوكيل المهمة في بعض الأحيان للمشغلين الإقليميين.
ولعل القطيعة الحاصلة بين داعش والنظام التركي هي انعكاس لما يشبه نظيرتها القائمة مع الإدارة الأميركية، وإن كانت أوجه التعبير عنها مختلفة ومتباينة، بما فيها التصريحات التي تحمل اتهاماً تركياً مباشراً لإدارة أوباما بالمسؤولية عن نشوء داعش، أو تحميلها مسؤولية ما تقوم به ضد النظام التركي الذي اضطر على نحو قسري إلى تبادل الرسائل الدموية مع التنظيم، وصولاً إلى حديث وزير الحرب التركي عن الفشل الأميركي، وهذا -لاشك- جزء من ضريبة يدرك أنه لا بد من دفعها نتيجة المستنقع المتطرف الذي أوجده في سياق العلاقة مع التنظيمات الإرهابية ومن بينها داعش، واعتماده على الإدارة الأميركية لتكون الكفيل للتنظيم أو على الأقل الضامن لمساحة ارتداده والتي كان يفترض أن تكون خارج الأراضي التركية.
انفراط عقد التفاهم بين إدارة أوباما والنظام التركي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة والتي بدت فيها الإدارة الأميركية غير متحمسة للدفاع عن أردوغان ونظامه، كان بمثابة كرة الثلج التي لا تزال في طور التدحرج، وما يتكشف خلفها ليس كل ما في جعبة العلاقة التي تربط المشغلين، بل وراء كرة الثلج ما يكفي من أوراق تستعد لفردها تباعاً، في وقت كانت التصريحات الأميركية الرسمية ترسم خطوط تقاطع أو تطابق على المستوى الإقليمي من أجل الإبقاء على الحبل السري مستمراً ومن دون انقطاع.
ما حصل أن القطيعة كانت سابقة لرحيل الإدارة الحالية، بحكم أن التطورات الميدانية دفعت إلى التسريع بعجلة الأحداث، وهو ما لم يكن محسوباً في التوقيت الأميركي والإقليمي، وبدا الإيقاع من الطرف الآخر هو الأكثر تحكماً بضبط المواعيد والتوقيت، بل وفي تحديد الاتجاهات وحتى الجهود، فيما الإدارة الأميركية القادمة ليست مهمومة بما انقطع، بقدر انشغالها بانجاز تسويات تعيد تحييد واشنطن لتكون المحرك بدلاً من صفة الشريك، وأن تكون الراعي تعويضاً عن صيغة المنسق، وأن يبقى كل ما يجري تحت سقف الرغبة الأميركية وبما يتوافق مع النماذج الجديدة التي تريد تسويقها في اتجاهات مختلفة، وفي مقدمتها علاقتها مع التنظيمات الإرهابية، والتي ستكون من ضمن إعادة هيكلة مؤسسة الاستخبارات الأميركية المتهم الأساسي، والتي يؤشر إليها ترامب ويتحدث عنها مساعدوه البارزون تلميحاً حينا وتصريحاً في أحايين أخرى.
وجاءت محاولة التموضع التركي في الضفة الأخرى -ولو كان ذلك قسرياً واضطرارياً- لتزيد من تباعد في الأولويات، بما فيها العلاقة مع التنظيمات الإرهابية، وبدأت عملية المحاصصة على تلك التنظيمات تجري خلف الكواليس وأمامها، وخلصت وفق التسريبات الغربية إلى اتفاق غير موقع.. والأدهى أنه غير مرض للطرفين الأميركي ومعه السعودي، ولا للتركي ومعه القطري، وظهرت التباينات الحادة في الإشهار التركي المتعمد أو قبولها المشروط لتكون النصرة خارج عباءة الاتفاق، رغم يقينها باستحالة ذلك، وأن جميع التنظيمات الرديفة أو المشتقة ليست سوى بقايا نتف تنضوي تحت مظلة النصرة، وبرزت في سياق المصالحة السعودية مع النصرة أو ما يماثلها في مناطق أخرى، وكانت الضربة الأميركية في مناطق نفوذ النظام التركي جزءاً من رسائل تكتب بطريقة تعرفها أنقرة وإن كانت لا تجيد قراءتها.
ما بقي من حروب الرسائل المتبادلة يبدو أبعد من قدرة التسريبات على الإحاطة به أو التعبير عنه، وهو منوط بسياق ما تنتجه مشاهد الاشتباك المختلطة بين أدوات ومشغلين وحلفاء على وقع خرائط التحالفات المتشكلة أو التي يراد لها أن تتبلور، سواء جاءت في سياق طبيعي أم اقتضتها الضرورة القسرية، وما يقابلها من فك ارتباط لتحالفات قديمة وتقليدية أو لتفاهمات آنية ومؤقتة فرضتها لعبة التوظيف الغربي للإرهاب وتنظيماته، وصولاً إلى تموضع لا يزال مرتبكاً ومختلاً في بعض جوانبه، وإن كانت الأيام القادمة كفيلة بحسمه، حاله في ذلك حال الخرائط الفعلية للتحالفات أو التفاهمات وربما معادلات الاشتباك السياسي وغير السياسي في لحظة تبدو فاصلة على مسرح الأحداث وربما على مستقبل المنطقة والعالم.
a.ka667@yahoo.com