ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
أمضت أميركا ومعها الكثير من العواصم العالمية ليلة فزع لمّا تنتهِ بعد، خصوصاً أن الرئيس الأميركي الخامس والأربعين بات مقيماً فعلياً في البيت الأبيض، رغم أن خطاب التنصيب لم ينطوِ على مفاجآت غير متوقعة،
ولم يشهد إضافات يمكن أن تبرر ما ذهبت إليه الكثير من الهواجس المقلقة لدى دول وقوى تجد فيه سيلاً جارفاً يحاول أن يختطف أميركا من يد نخبتها، أو أن يجبرها على رفع الحماية عن حلفائها وتابعيها.
في المجمل كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعيد التذكير بعناوين سبق أن طرحها، لكن بلغة أقرب إلى السياسة منها إلى الشعارات الانتخابية، ومارس دوره كاملاً في اللعب على وتر أمركة المشهد ليكون هو العنوان الأبرز والأكثر استحواذاً على الإعلام الأميركي الصادر أمس، وقد ترك ما يكفي من إشارات استفهام كبرى حول مصير أميركا.. من القلق والتوجس وصولاً إلى الفزع، من دون أن يقدم أي إجابات يمكن أن تشفي غليل الداخل الأميركي أو تخفف من قلق من هو خارجه.
الفزع الأميركي مبرر، حاله في ذلك حال ما ينتاب الكثير من العواصم العالمية التي بدت أنها تتعرف على أميركا جديدة لا تشبه تلك التي اعتادت معايشتها على مدى العقود الماضية، بل في بعض أوجهها بدت لها في خندق ليس لها، وفي موقع أبعد ما يكون عن سماتها وصفاتها، والأدهى أنها لا تزال أمام صدمة تدوير الزوايا التي قارب من خلالها الرئيس الأميركي رؤيته للعلاقة مع الآخرين.
ما أباحه ترامب لنفسه أتاحه للآخرين، وأن المصالح الأميركية التي تتصدر ومن دون منازع، أي شكل للعلاقة مع الدول الأخرى رأى أنها يجب أن تكون المعيار للآخرين أنفسهم كي يبنوا علاقاتهم تبعاً لمصالحهم، وهو ما بدا متناقضا مع السياق الذي أنتجته تراكمات العلاقة مع الأميركيين، وخصوصاً من بيادق اعتادت أن تحارب من أجل المصالح الأميركية وقدمت أوراق اعتمادها لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة على أنها الحارس الأمين على تلك المصالح، وبعضها أصلاً لم يفكر ولا يعرف حتى لو فكر أن لبلاده مصالح خارج نطاق الهيمنة الأميركية، أو في الحد الأدنى خارج نطاق الإبقاء على وجوده بمهمته الوظيفية المتأرجحة.
أميركا الفزعة أو المفزوعة من الكارتلات والاحتكارات التي تتنافس على صياغة واقع يؤجج ملامح الصراع بأدوات لم تعتد عليها، وفي حالة تخندق لم تتمرن جيداً فيها وفي اختبارات صعبة لم تجر ما يكفي من التدريب عليها، هي ذاتها التي يخاف منها أولئك المنتظرون أميركا كما اعتادوها أو كما ألفوها، وهم ذاتهم الذين يجدون في أمركة السياسة الأميركية ما يتناقض مع أمركة العالم، والفارق الوحيد الذي يرونه حاضراً وماثلاً لا يكاد يتجاوز حدود ومساحات الهواجس المثارة حول الأدوار الوظيفية.
لم يتحدث ترامب عن إلغاء تحالفات، لكنه أفصح عن الرغبة في بناء جديد منها على ضوء مصالح أميركا، ومن يريد مصالحه لا أحد لديه المبرر أو المشروعية للخوف منه أو التوجس ولا القلق، وحدهم المتحمسون واللاهثون خلف مهمات وظيفية اعتادوا أن يعتاشوا على هوامشها وعلى مساحة ما تدره عليهم من ثناءات أميركية يواجهون ليال فزع أخرى، بل قد تكون أخطر مما سبق لهم أن واجهوا حتى اللحظة، وستبقى كل لياليهم القادمة حلقات متسلسلة من الفزع والخوف والقلق والتوجس وصولاً إلى الرعب من فزع أميركا ذاته الذي تتشارك فيها قوى وأطراف ومعادلات وقواعد اشتباك داخلية وخارجية، تتزاحم في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع على أسس تتباين فيها مواعيدها وتوقيت استحضارها.
العالم مع ترامب هو غيره قبله.. هذا صحيح، لكن ليس فقط لأنه يقبع اليوم في البيت الأبيض، بل لأن العالم تغير، والعالم لم يعد ذلك المرهون للإشارة الأميركية أو لإيحاء ساسياتها وتجاربها المرة وهيمنتها البغيضة، فكان التغيير من الداخل الأميركي ذاته، ومن انتخب ترامب لم يأتِ من خارج صناديق الاقتراع، بل من قلبها، ومن الأوراق التي أشهرها الأميركيون قبل سواهم بأن أميركا التي يريدونها ليست تلك النسخ المتداولة من إدارات تتغير الأسماء وتبقى الممارسات وقواعد العمل والنفوذ والتسلط.
والعهد الأميركي الجديد لا يشبه حتى نفسه، لكنه يحتاج إلى وقت طويل كي يعبر عن ذاته، ولا تزال أمامه لائحة طويلة من المنزلقات والمنعطفات القاسية والمؤلمة، وأنها لا ترتبط بالعامل الخارجي فقط، بقدر ما هي انعكاس لحالة أميركية داخلية، تبرر لبعض الأميركيين الفزع، وتشرعن لبعض القوى في الداخل الأميركي الخوف وحتى الهلع، وقد تفسر إلى حد بعيد ما جرى من احتجاجات غاضبة على وصول ترامب، كان محركها تلك القوى.
ليل الفزع الأميركي الطويل سيبقى مستمراً حتى وقت آخر، ولا تزال الشبهات ذاتها التي تحول دون التيقن من المسار الأميركي ماثلة وقائمة، وغير ذلك يبقى مجرداً من دلالاته أو خالياً من قرائنه، فيما ليال ويوميات متخمة بالفزع والخوف والهلع ستبقى جاثمة على صدور وعقول الكثير من السياسيين الذين رهنوا أوراقهم في بورصة السياسة الأميركية، واستثمروا وبازروا في متاهة حساباتها، مثلما ستحضر وبفائض من الخشية على سياسات لا تمتلك من رصيدها شيئاً إلا ذاك الذي كانت تتاجر فيه على الحساب الأميركي وللحساب الأميركي.
a.ka667@yahoo.com