ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
تستولي إرهاصات الحديث عن الحرب الباردة على مساحات المشهد الدولي وتخومه الجانبية الذي يرقب بتوجس تخلي أميركا عن الكثير من أدواتها الناعمة وإحلال خشونة وفظاظة، لا تختلفان كثيراً عن ذاك المنتظر من ترامب،
وإن كانتا لا تتقاطعان في شيء مع الأجواء التي خيَّمت بعد أول لقاء قمة جمعه مع بوتين ، حيث الرياح لم تكن مخالفة تماماً لما تشتهيه واشتهته إرادة سياسية محكومة بعوامل وارتباطات القوى المتنفذة داخل الإدارة الأميركية، بل معاكسة لكثير من التحليلات والاستنتاجات التي رافقت اللقاء وتلته.
الواضح أنَّ التصعيد الأميركي في سياق البحث عن ممرات ساخنة لعلاقة مرتبطة بالنفوذ والهيمنة ومحاولة الاستلاب سياسياً واقتصادياً لا يكتفي بإعادة فرض إيقاع الحرب الباردة بطقوسها المعتادة، بل يستلُّ جملةً من المؤشرات الفعلية على السطوة الأميركية لتكون الكفة المرجحة في العلاقة، بعد أن أدركت أميركا أن ما قطعته روسيا في طريق استعادة وجودها وحضورها لم يعد ممكناً تطويقه أو محاصرته من خلال الطرق التقليدية في السياسة، ولا بد من الاستعانة بما سبق لأميركا أن جربَّته من محاصرة اقتصادية والعودة إلى نغمة العقوبات، وإن بدت الحجج والذرائع واهيةً وغير مقنعة، بل تسجل نقاطاً ومآخذ على السياسة الأميركية أكثر مما تعطيها.
المقاربة الأميركية للتصعيد وإعادة تطبيق حرفي لمفاهيم الحرب الباردة بأدوات ساخنة، تنطوي على نقاط ارتكاز متحركة ومتبدلة، لا يمكن لأيِّ متابع أن يغفلها، أو أن يتجاهلها، تحت وقع سياط من الاستنتاجات المبكرة في الهدف الأميركي من الإصرار على منطق العقوبات، التي تشي بأن حزمتها الأخيرة بالتوازي مع عقوبات على إيران وكوريا الشمالية، بما هو أخطر مما تتضمنه من بنود، حيث يمكن فهم أبعادها وأهدافها في سياق الترجمة العملية لحملة مسعورة في الداخل الأميركي، ومن قبل أصحاب الرؤوس الحامية التي تبحث عن موطئ قدم يعيد لأميركا جزءاً مما خسرته في العقد الأخير من هيمنة مطلقة على المشهد العالمي، وباتت مضطرةً لتقاسم الحلول للمشكلات التي تعصف بالعالم مع الآخرين بعد أن استفردت لعقدين من الزمن بالحلول والمشكلات معاً.
الرد الروسي بسقفه المرتفع أخذ بالحسبان تلك المعطيات، ووضعها في سياقها الطبيعي حين ترك مساحة للتحرك تتيح له المناورة داخل الملعب الأميركي ذاته، وأنَّ الإجراءات الجوابية وفّرت هامشاً سياسياً يضيف إلى الأوراق الروسية المزيد من الفاعلية والتأثير في محيط تدرك روسيا حساسية التعرض له، من دون أن يكون هناك تداعيات، لكنها في الوقت ذاته أيضاً تعرف وبالتفاصيل تأثيرات الانجرار إلى ما تريده أميركا من تلك العقوبات، خصوصاً بعد أن بدا البيان المشترك الأميركي مع الثلاثي الأوروبي مذكرة إضافية لجرِّ المشهد نحو المواجهة، وأنَّ أوروبا التي اشتكت من الأسلوب الأميركي في فرض عقوبات على روسيا ليست جادة في تلك الشكوى، أو أنها فقط للاستهلاك الإعلامي، ما يوسع من هامش المناورة الروسية للضغط حتى في الاتجاه الأوروبي.
الحرب الباردة رغم سخونة مخرجاتها، قد لا تكون قاب قوسين كما يروّج لها البعض، لكنها غير غائبة من الحسابات الدولية، ولا من المعادلات التي يبازر على عتباتها الغرب عموماً، وإن كان استحضارها بالطريقة نفسها، وبالأسلوب عينه، يحول دونه الكثير من المتاعب والمصاعب، بل يفقدها الفاعلية التي كانت سائدة قبل عقود، بحكم المتغيرات التي شهدها العالم في سنواته الأخيرة، وإنَّ موازين القوة التي يغالي الغرب في الاعتماد عليها لتبرير فوقيته ولشرعنة معايير سطوته، لم تعد كما كان الحال عليه، والصورة التي كان يراهن عليها، ويعوّل على ما تحققه من استباحة للعقل ومصادرة للإرادة لم تعد هي ذاتها، بل ربما كانت تلك السنوات على محدودية وجودها كافية لتغيير جوهري و إستراتيجي في قراءة مشهد التجاذب داخل العلاقات الدولية.
وإذا كانت أميركا قد بالغت في لجوئها إلى أساليب وأدوات الحرب الخشنة بمفردات استعارتها من حقبة الحرب الباردة، فإن ما تحمله في طياتها من مشاهد إفلاس تجعل من تلك الحواف والهوامش المضافة لافتعال أجواء مشابهة أو متطابقة مع تلك التي سادت في الحرب الباردة على أسس جديدة، حمَّالة أوجه، وربما قابلة للاستخدام المزدوج مع وضد في الآن ذاته، حيث ما يصح لأميركا أن تستخدمه لترجيح كفة أوراقها، هو ذاته الذي يمكن لروسيا أن تعوِّل عليه مع متغيرات فقدت فيها حليفات أميركا في أوروبا قوتها الضاربة في تقديم الدعم اللوجستي للخطوات الأميركية، وفي وقتٍ تكسب فيه روسيا المزيد من النقاط على حلبة المواجهة الدولية، وتبدو خياراتها أكثر اتساعاً من أيِّ وقت مضى، وأكثر من أيِّ زمن رحل.
التخوم التي تحاول أميركا أن تصطنعها مجدداً تبدو واهيةً وأحياناً منزلقة، والترويج الكاذب والتورم في صياغة مقاربات خادعة لن يعدّل في المشهد الدولي، الذي يميل بطبعه إلى التشاؤم المفرط، من أنَّ الردهات الجانبية للعلاقات الدولية تستبيح ما تبقى من محظورات، وتمارس أقصى درجات النفخ في جمر التصعيد، بينما المحددات التي تستنسخها مراكز صناعة القرار الغربي من حقبٍ ولت، لا يمكن القياس عليها، وحتى لا تصحّ المقارنة، وإن كانت المقولة الرائجة بأنَّ من يلعب في النار قد يحرق أصابعه، تجوز في ظل استعارة لهوامش وأدوات وأساليب شديدة السخونة مع الفارق في التوصيف والظرف وحتى النتائج.
a.ka667@yahoo.com