ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
يكثر الحديث عن الحوار الوطني السوري، وتندرج معه قضايا ذات طابع إشكالي حيناً، وبأبعاد تتجاوز السياق العادي أحياناً أخرى، وجميعها تكاد تكون منصة للتصويب من هنا وهناك، ولا يتردد البعض في اتخاذه ذريعة للغمز من قناة المشهد الداخلي، من دون أن ننفي حضور العامل الخارجي، كإحدى الإشكاليات التي تتربص بواقع النقاش ومخرجاته والأدوات التي تمثل إحدى مدخلاته الجوهرية.
في المبدأ.. لم يكن الحوار الوطني السوري مشهداً غائباً أو تمَّ استحداثه، بحكم التطورات الميدانية والتبدلات السياسية فقط، وإن كان هناك إقرار بذلك، حيث وفَّرت مناخاً مساعداً وظرفاً مهيِّئاً لإعادة طرح النقاش حول محددات الحوار، وهي تتماشى إلى حدٍّ بعيد، بل تتسق بشكل شبه كلي مع أجندات تفرض إيقاعها، وتعيد ضبط المدخلات لتكون قادرة على إيجاد المبررات للطرح من زاوية الفهم للأولويات وتراتبيتها سياسياً…
ولكن في الوقت ذاته، لا أحد بإمكانه أن يغيِّب هذه التطورات باعتبارها دافعاً موضوعياً لا غنى عنه، ولا يمكن بأيِّ حالٍ تجاهله، ما يملي تلقائياً العمل على تحديد صيغ تشكل محددات أساسية للحوار، وتقدم تهيئة ظرفية بملامح مرحلية للعمل على السياق ذاته، بحيث تكون قاعدةً صالحةً للنقاش، ومحفزةً له، والأهم أنها تتكئ على تداعياته لإطلاق المسار السياسي، وليكون محمولاً على تلك الأجندات وصيغة أولى من صيغ الحوار.
هذا لا يعني أن تطرف البعض في الطرح سينتفي وأن بيع الأوهام سيتوقف، وخصوصاً تلك المترافقة بتمنيات ومبالغات تصل إلى سقوفٍ تلغي جانباً من الحوار، وتحاول أن تصادر المخرجات التي تريدها مشروطةً مسبقاً، وهي التي تجعل التطلع إلى الحوار مجرداً من عوامله الموضوعية، وخصوصاً حين تستبدل مفرداتها بطيف واسع مع المشادات الحسية المجردة، وتوصل إلى الاستعصاء قبل أن ينطلق الحوار، وهذا ما يجزم بالحاجة إلى إعادة تحديث للمحددات، بحكم أن الكثير منها تجاوزته الأحداث والتطورات، وبات الجزء الأساسي منه خارج النقاش، ويحتاج إلى استبعاد تلقائي من نوع التنظيف الذاتي.
فالظرف السياسي يفضي إلى قراءة التداعيات بمنظار المواءمة بين النتائج التي خلصت إليها المقاربات المختلفة والبناء عليها، حيث المشروع الإرهابي ومساحات استثماره والتعويل عليه كعامل ضاغط فقد الكثير من عوامل حضوره، وإن البقايا والبؤر التي تبني عليها بعض القوى المراهنة على العامل الخارجي باتت بالضرورة خارج النقاش، ليس لأنها تخلت عن تلك المعايير، وإنما بحكم إرهاصات المرحلة وما نتج عنها، وبحكم الحقائق التي تتوضح تباعاً.
بينما المقاربات البينية تجد متسعاً للنقاش، وقاعدة فسيحة تتيح التشاركية المبنية على خلاصات جوهرية، أساسها الأخذ بالمناخات الإيجابية التي تمخضت عن تلك التطورات، وأنَّ المواجهة وإن لم تنتهِ بعد، فهي حددت توجهات عامة، وأنهت جملةً من الافتراضات الخادعة، وأوصلت مجموعةً من القناعات، وفي مقدمها أنَّ السياسة تأخذ بما هو موجود وما تراكم من أوراق، وما عجزوا عنه بالإرهاب لن يطولوه بغيره، وما فشلوا به في المواجهة لن ينالوه بالمناورات الجانبية.
على هذا الأساس.. فإن سوتشي كانطلاقة بما تحمله تشكل بوابة لإطلاق الحوار، لكنها بالقدر ذاته مخاض مهم وربما استثنائي واختبار لآليات فهم تلك التطورات وطرق تفسيرها، والاستنتاجات التي تبني مختلف القوى تقديراتها عليها، وهذا يعطيها بعداً إضافياً، ويتطلب في الوقت ذاته المعايير السياسية والظرفية لكل ما يمكن أن يندرج في سياقها، وصولاً إلى الأوراق التي يفترض بها أن تطرحها.
والأهم أنَّ محاورها محكومة أيضاً بالخلاصات الفعلية للمواجهة، وهي التي تبدو ضاغطة، رغم محاولات عديدة تجري لإفراغها من محتواها، أو لاستبعاد عوامل الضغط القائمة، أو لتأجيل حضورها السياسي المعتمد على دورها في تحديد سقوف الطرح ومجالات النقاش، والأهم الملفات التي ستتصدى لها.
في الاستنتاج البسيط الدائر، يمكن الأخذ ببعض المحددات، ولكنها لا تكفي.. ولا تشكل ضمانة حقيقية تحول دون انزلاق سوتشي وما بعدها – كما هو دائر قبلها – إلى زواريب لا تؤدي إلى مكان بقدر ما تشتت الجهد، وتعزل الحوار الوطني عما حوله، وتبقيه في دائرة التفافية تعيد إنتاج المعضلات ذاتها، وإن كان بإخراج جديد أو لبوس مختلف، وتلك هي واحدة من مخاطر لا تخفى على أحد، لكنها تتطلب إعادة توضيح وتوثيق، وربما تثبيت في المحددات التي تنطلق من خلالها.
فالحوار الوطني السوري يقضي باستبعاد تلقائي لعوامل التأثير الخارجي، وأن تكون أوراقه خارج التداول، بمعنى أن يتم ضبط الإيقاع على مستوى الطرح، بحيث لا يتجاوز مساحة المؤثرات الداخلية، وأن يأخذ بالحسبان أن ما يصح قبل بضعة أشهر، لم يعد قابلاً للطرح، وما يصلح اليوم من الجائز أن يبطل غداً، وأنَّ التمترس في المربع الأول لم يعد مجدياً، بل عاملٌ من عوامل عرقلة وربما تفجير هذا الحوار، ما يستدعي إنتاج الحد الأدنى لمتطلبات إطلاق حوار صحيٍّ قادرٍ على النهوض بمسارات العمل الوطني.
وما عدا ذلك، يأخذ الحوار إلى مكان آخر، وإلى مواجهة استعصاءات بالجملة، أولى نتائجها ستكون نسف مرتكزات الحوار، سواء أكان بفعل ذاتي، أم جاء حصيلة لعوامل موضوعية، لا تزال حاضرة في سياق التطورات العاصفة التي لم تنتهِ فصولها بعد.
a.ka667@yahoo.com