الثورة – إيمان زرزور:
في بلد متعدد الثقافات والمحافظات مثل سوريا، لم تكن اللغة يومًا مجرد وسيلة تواصل، بل تحوّلت إلى وعاء غني بالتنوع اللهجي، يعكس ملامح التاريخ، وخصوصية المكان، وعمق الهوية، وباتت كهوية يحملها المواطن السوري ليس ضمن حدود الوطن، بل إلى بلدان الشتات واللجوء والاغتراب.
رغم أن اللغة العربية الفصحى تُشكّل الإطار الموحد للتواصل الرسمي، فإن اللهجات المحلّية المختلفة تعبّر عن الشخصية الثقافية لكل منطقة، بل تُعدّ أحد أبرز وجوه التراث غير المادي في سوريا، المتوارث عبر الأجيال.
لهجات متنوّعة… تحت سقف واحد
قد لا يخفى على السوريين أنه من الطبيعي أن يسمع أحدهم كلمة مألوفة في مدينته، لكنها مجهولة تمامًا لصديق من مدينة أخرى، وقد تبدأ تلك الكلمة بمجرّد استفسار، وتنتهي بقصة أو نكتة… وبهذا المعنى، تصبح اللهجة مساحة للتفاعل، والمزاح، والحكايات اليومية.
ويُعرّف اللغويون “اللهجة” بأنها أسلوب خاص في النطق والتعبير داخل اللغة الواحدة، يتشكّل بحسب البيئة، والموروث، والعادات، وفي سوريا، تشكل اللهجات لوحة فسيفسائية حيّة، تعبّر عن التنوّع ضمن الوحدة.
من دمشق إلى دير الزور… لكل مدينة نكهتها
بداية باللهجة الشامية (دمشق وريفها)، تُعرف بنعومتها ورقي تعابيرها، وتعكس طابع المدينة المعروف بالهدوء واللباقة، وتحب التصغير في الكلمات، وتستخدم تعابيرها ببساطة وعفوية، في حين أن (اللهجة الحلبية) تتميّز بقوة نبرتها وإيقاعها الموسيقي الخاص، تُقال الكلمة في حلب وكأنها جزء من لحن، وتتسم بالوضوح والجرأة، مع لمسة من روح الدعابة والاعتزاز بالمحلي.
بالانتقال إلى (اللهجة الحمصية)، البسيطة والدافئة، تمتاز بعفويتها ومباشرتها، وتُعد من أكثر اللهجات التي دخلت في سياق النكات الشعبية، لكونها محبّبة وسهلة القبول، في حين أن (اللهجة الساحلية)، تتميز بنغمتها الهادئة والصوت المنخفض، تجمع بين وقار الجبال ودفء البحر، وتتسم بجديتها الممزوجة بالعاطفة العميقة.
وفي الجنوب، تُعرف (اللهجة الدرعاوية)، بجديتها وسرعتها، ولا تميل للإطالة أو التفصيل، نبرتها مباشرة وتعبيراتها مختصرة تعكس طبيعة أهلها العملية، أما (اللهجة الديرية)، فتتميز بنكهتها البدوية ونغمتها القوية، تنطق كلماتها بثقة وكرم، وتتميّز أيضاً باستخدام حرف “چ” بدلاً من “ك” أحيانًا، وتفيض بالدفء والحميمية.
أما (اللهجة الإدلبيّة) فتميل إلى السرعة والاختصار، وتحمل طابعًا ريفيًا محببًا، تبدو خفيفة الظل، وتجمع بين الحنان والعفوية، ما يجعلها سهلة التقبّل ومحبّبة حتى للغرباء، و(اللهجة الحموية) سريعة الإيقاع، حادة النبرة أحيانًا، وتميل إلى الدمج بين الفصاحة والعفوية، تحمل طابعًا مميزًا يجمع بين الجد وروح الدعابة.
اللهجات: هُوية لا تُنسى
في كل لهجة سورية حكاية، وفي كل نغمة محلية جذور، هذا التنوّع اللهجي لا يفرّق السوريين، بل يقربهم من بعض، ويغني اللغة بمفردات وتراكيب لا تُحصى، والأجمل أن السوري، وإن تكلّم الفصحى في خطاب رسمي أو لقاء مهني، فإن لهجته ستطلّ من بين السطور لتقول: “أنا من هنا”، تذكّره بأهله وحيّه ومدينته. والأجدر اليوم بدل السخرية من اختلاف اللهجات، هو تقديرها كجزء من المشهد الثقافي الوطني، فالاختلاف لا يُفسد للود قضية، بل يُغني التواصل ويزيد من حيوية اللغة، فهي ليست مجرد لهو لغوي… بل سجلّ حيّ لذاكرة وطن.