الثورة – لينا شلهوب:
ما إن خطونا أولى خطواتنا داخل جناح الحرف اليدوية في معرض دمشق الدولي 2025، حتى استقبلتنا رائحة الطين الممزوج بالماء، وصوت العجلات الدوّارة وهي تُشكّل قطع الفخار على أنامل الحرفيين المَهَرة. لم يكن المشهد مجرد زاوية عرض عابرة، بل كان أشبه بمسرحٍ حيّ تنبض فيه الحرفة القديمة بالحياة من جديد، حيث جلس الأطفال في حلقات صغيرة، بعيون متطلعة وفضول لا يهدأ، يراقبون كيف يتحوّل الطين اللين شيئاً فشيئاً إلى كوب، أو جرة، أو إبريق مزخرف يروي حكايات الزمن. إلى أن سمعنا صوت طفل يقول: سوريا تستقبل العالم، إنه الطفل علي سيف الدين ابن 7 سنوات، يتفنن بالطين ويحوله إلى أدوات صحية سواء للطعام أو الشراب، ويقول: هذا أفضل من أواني البلاستيك أو الستانلس، لافتاً إلى أنه يقوم بصناعة الفخار بشكل أولي منذ سنتين.
ليست مجرد مهنة
شيخ كار صناعة الفخار نبيل علي سيف الدين، قال: صناعة الفخار ليست مجرد مهنة تقليدية، بل هي ذاكرة ممتدة عبر آلاف السنين، على ضفاف الفرات والخابور، وفي سهول حلب وحمص، وُلد هذا الفن ليكون شاهداً على حضارة عريقة أتقنت تحويل المادة البسيطة إلى أداة للعيش والجمال، واليوم، في قلب العاصمة، يطلّ هذا التراث الأصيل محاطاً بأجواء من الفرح والاكتشاف، حيث يلتقي الزائرون بالحرفيين الذين حملوا سرّ المهنة من آبائهم وأجدادهم. وسط الازدحام، اقتربنا من ركنٍ صغير يجلس فيه الحرفي نبيل رجل خمسيني بوجهٍ سمرته الشمس، ويدين حفرت فيهما السنين خطوط التعب والإبداع، كان يجلس خلف دولاب الفخار، يضغط بمهارة على الطين، فتتشكل أمام أعين الحاضرين آنية بديعة، سألناه عن سرّ تعلقه بالمهنة، فأجاب بابتسامة عريضة: الفخار ليس مجرد طين وماء، بل روح وحكاية، أنا ورثت هذه المهنة عن أبي، وهو ورثها عن جدي، وكل قطعة أصنعها تحمل جزءاً من ذاكرتنا وهويتنا. وأضاف: ما يسعدني اليوم هو أن أرى الأطفال يجلسون أمامي ويحاولون بأيديهم الصغيرة إعادة اكتشاف هذا الفن، هذا يعني أن المهنة ستبقى حيّة، ولن تنقرض كما يخاف البعض.وعلى مقربة منه، كانت طفلة في العاشرة من عمرها تضع يديها فوق قطعة من الطين، فيما يساعدها الحرفي بتثبيت الشكل حتى لا ينهار، لحظات من التركيز والدهشة ارتسمت على وجهها وهي ترى كيف تتحوّل محاولتها البسيطة إلى إناء صغير، مشاهد كهذه تعكس جوهر رسالة المعرض هذا العام: ربط الأجيال الجديدة بجذورهم وصناعاتهم الأصيلة.
بُعد اقتصادي
إلى جانب الجمال الفني، لصناعة الفخار بعدٌ اقتصادي أيضاً، فهي ما زالت مصدر رزق للعديد من العائلات، إذ تباع منتجاتها في الأسواق المحلية وتُصدَّر أحياناً كهدايا تذكارية تحمل الطابع السوري، لكن التحدي الأكبر يبقى في الحفاظ على المهنة من الاندثار أمام ضغط الصناعات الحديثة والمنتجات البلاستيكية الرخيصة، لذلك، تأتي مبادرات كهذه، التي تجمع بين التعليم والعرض، لتؤكد أن الفخار ليس ماضياً فقط، بل أيضاً فرصة مستقبلية.مع انتهاء جولتنا، لم يكن المشهد مجرد عرض للحرفة، بل لقاء بين الزمنين، زمن الآباء الذين صانوا المهنة، وزمن الأبناء الذين سيحملونها إلى الغد، من الطين إلى الفن، ومن اليد إلى القلب، تظل صناعة الفخار حكاية سورية أصيلة، تُروى في كل جرة، وكل كأس، وكل لحظة جلوس أمام دولاب يدور ليعيد تشكيل الذاكرة.