الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:
من قلب مدينة حلب، التي لطالما عرفت بأنها عاصمة الصناعة السورية وركيزة الاقتصاد الوطني لعقود طويلة، يدور اليوم جدل واسع حول واقع الشركات والمعامل، بين التي توقفت عجلاتها عن الدوران نتيجة الحرب أو نقص المستلزمات، وبين التي تحاول جاهدة الحفاظ على بقائها، مدعومة بجهود حكومية وصمود صناعيين لم يفقدوا الأمل رغم كل الظروف.
19770 منشأة
ورغم الدمار الكبير الذي طال القطاع الصناعي خلال سنوات الحرب، لا يزال في حلب اليوم ما يقارب 19770 منشأة صناعية وحرفية عاملة، وفق ما يؤكده مدير صناعة حلب المهندس عبد الجبار زيدان لـصحيفة الثورة، موزعة بين المدينة والريف، هذا الرقم يحمل في طياته رسالة واضحة، وهي أن عجلة الإنتاج لم تتوقف كلياً، بل استمرت بشكل متفاوت تبعاً للقطاعات وظروف كل منها، وهو ما يجعل حلب مدينة معلقة بين ماض صناعي مزدهر وحاضر مثقل بالتحديات، ومستقبل يراوح مكانه بين الأمل والخوف.
متعثرة وصامدة
يكشف المهندس زيدان، أن واقع الصناعة الحلبي ليس متجانساً، فقطاع الغزل والنسيج الذي كان يوماً رمزاً لهوية المدينة الاقتصادية، تعرض لدمار واسع وتخريب ونهب مباشر لآلاته ومعداته إبان سنوات الحرب وما سبقها من سياسات مرتبكة، الأمر الذي أدى إلى توقف عشرات المعامل عن العمل. في المقابل، بقي القطاع الغذائي صامداً ولم يتوقف طوال السنوات الماضية، بفضل التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص لتأمين احتياجات السوق المحلية.
أما معامل الجرارات والكابلات على سبيل المثال فهي موجودة، وببنية تشغيلية جاهزة، لكنها متوقفة لأسباب لوجستية وتشغيلية، كما تواصل معامل الزيوت عملها بشكل جزئي، فيما يسجل قطاع الصناعات الدوائية حضوراً متميزاً، إذ يحقق اكتفاءً ذاتياً للسوق المحلي مع تصدير بعض الأصناف إلى الخارج، ما يجعله من أفضل القطاعات الصناعية في المرحلة الراهنة. وعلى الجانب الآخر، يعاني القطاع الكيميائي وخاصة صناعة البلاستيك من توقف كلي نتيجة تحديات متراكمة أبرزها، غياب الطاقة الكهربائية وارتفاع تكاليف الإنتاج، والمنافسة غير العادلة من المنتجات المستوردة والمهربة.
بين الكهرباء والتهريب
لا يختلف اثنان على أن غياب مستلزمات التشغيل الأساسية وعلى رأسها الطاقة الكهربائية، يشكل العامل الأبرز في تعثر الكثير من المنشآت، فالمعامل التي لا تزال تحتفظ ببنيتها الإدارية والفنية، تواجه صعوبة بالغة في تشغيل خطوطها الإنتاجية بسبب الانقطاع المستمر للتيار وارتفاع تكاليف الطاقة البديلة، لكن الأزمة لا تتوقف عند الكهرباء، إذ يشير مدير الصناعة إلى أن إغراق السوق المحلية بالبضائع الأرخص المستوردة، جعل مهمة الصناعيين في المنافسة شبه مستحيلة، خصوصاً مع دخول كميات كبيرة من المهربات دون رسوم جمركية، تباع بأسعار أقل من التكلفة الفعلية للإنتاج المحلي.
في مداخلة لعدد من أصحاب معامل النسيج على هامش اجتماع الهيئة العامة السنوي لغرفة صناعة حلب، الذي عقد قبل فترة، عبر الصناعيون عن واقعهم: “مشكلتنا ليست في العمالة أو الإدارة، لدينا خبرة وأيدٍ عاملة ماهرة، لكن كيف يمكننا منافسة بضائع تأتي عبر التهريب بأسعار أقل من سعر الخيط نفسه؟ إن لم تضبط السوق، سنبقى ندور في حلقة مفرغة.
دعم التصدير
أمام هذا الواقع المليء بالتحديات، تبذل الحكومة جهوداً على أكثر من صعيد، إذ أوضح مدير الصناعة بحلب أن هناك محورين أساسيين للتحرك،
الأول: تأمين الطاقة الكهربائية للمعامل عبر مشاريع بديلة، بما في ذلك تشجيع الاعتماد على مصادر الطاقات المتجددة، ودعم المولدات الاحتياطية ريثما يستقر التيار.
والثاني: حماية المنتج الوطني عبر دراسة رفع الرسوم الجمركية على المواد المستوردة، لتصبح مساوية أو أعلى من تكلفة الإنتاج المحلي، بما يضمن إعادة التوازن إلى السوق.
وكشف زيدان أن الحكومة أصدرت مؤخراً، نحو 1600 إعفاء جمركي مخصص لاستيراد تجهيزات جديدة للمعامل أو إعادة إدخال معامل خرجت سابقاً وخاصة من تركيا، بهدف إعادتها للعمل داخل سوريا وفي حلب بشكل خاص.
وأضاف: “المعامل التي دخلت حديثاً، وفي حال حصلت على الدعم الكافي، ستسهم في إعادة دوران عجلة الإنتاج بوتيرة أسرع، وستفتح أبواب عمل واسعة لليد العاملة المحلية”.
الطموح لا يقتصر على تغطية حاجات السوق المحلية كما يقول زيدان، مشيراً على أن هناك الكثير من المساعي تُبذل بالتعاون مع منظمة العمل الدولية لفتح أبواب التصدير إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما يمثل فرصة استراتيجية لإعادة وضع الصناعة الحلبية على الخريطة العالمية.