ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
لم تكتفِ قمة سوتشي بين الرئيسين الأسد وبوتين برسم الحدود الفاصلة بين مشهدين، ولم تركن إلى تحديد ملامح المشهد الإقليمي وتداعياته وأبعاده، بقدر ما كانت تحدد بدقة مشروعاً سياسياً يضفي أبعاداً إستراتيجية نوعية، وإن بدا لقاء القمة السورية الروسية في بعده الآني تتويجاً منطقياً لمرحلة حفلت بكثير من التطورات المتلاحقة،
وسيل لا ينتهي من الأحداث المفصلية، وكانت في الوقت ذاته إيذاناً عملياً بتدشين مرحلة جديدة لها خصائصها وسماتها، ولها أجنداتها وجدول أولويات حافل بالتحديات، ومتخم في الوقت ذاته بالطموحات التي ترجمت إلى حدٍّ بعيد التفاصيل التي لم تغفلها عن عمد عناوين القمة المباشرة.
المرحلة من حيث المبدأ تبدو امتداداً طبيعياً لسير الأحداث، واستكمالاً روتينياً لملفات أنجزتها المرحلة الماضية بكثير من الإتقان، وختمت معها فصولاً إضافية من الكفاءة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية، أنهت من خلالها أو كادت ما تبقى من مشاهد عالقة بين مرحلتين، واستدركت الكثير مما اقتضت الضرورة السياسية استدراكه، وعمدت إلى وضع حجر الأساس لصيغ ومفاهيم، كما أعادت التحالفات تموضع النقاط على حروف السياسة التي بدت ملحةً في ظل التراتبية المتبدّلة للتحديات وأشكالها، وإن ظلَّ عامل الإرهاب والتصدي له أحد أهم العوامل المشتركة والثابت الأساسي في علاقة نضجت بما يكفي لرسم التصورات المشتركة إيذاناً بإطلاق عناوين جديدة لا تعوزها الجدية بأي حال.
فالاصطفافات السياسية على المقلب الآخر تأخذ أبعاداً موازية في اتجاهها وملامحها، وخصوصاً مع التبدلات الحاصلة في نقاط المواجهة على خلفية الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وما يفرضه، بالتزامن مع القرار الأميركي بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة، وما يمليه من متغيرات في سقوف المواجهة وأدواتها، وصولاً إلى التحالفات التي فرضت نفسها على أنقاض العلاقة بين طرفي الأطلسي، وما تقتضيه من إعادة نظر قسرية في قواعد الاشتباك بين الغرب ذاته وعلاقته بالشرق، ووصولاً أيضاً إلى المقاربات الناتجة عن هذا التصادم بين حلفاء الأمس، وفيما بعد إلى ما تراكم من تلك المواجهات بين محور مقاومة الإرهاب ومحور داعميه.
الفرق الجوهري وربما كان الفارق الأكثر حضوراً في القمة السورية الروسية ولقاء الرئيسين الأسد وبوتين، أن قمة سوتشي في التوقيت، أبرزت طوقاً سياسياً من المحددات التي فرضتها المتغيرات التي أعقبت قمتها السابقة، بدليل أن الإشارات المتبادلة ونقاط التركيز لم تكتفِ بلحظ هذه الفروق والتقاطها فحسب، بل سجلت مباشرة الانتقال في النقاش إلى ما هو أبعد من الآني، وإلى ما هو أشمل من السياسي، ووصلت في بعض التفاصيل إلى تسجيل طيف واسع من القضايا التي تلامس ما بعد الحرب على الإرهاب، وتحاكي في الوقت ذاته أبعاد الاصطفافات في الضفة الأخرى، والتشظيات الناتجة عن فشل المشروع الإرهابي الغربي وتوابعه الإقليمية.
فالحدود الفاصلة –وإن بدت غير محددة زمنياً وجغرافياً– لا تخفي نفسها، ولا تترك مجالاً للجدل في مساحة التبدلات العاصفة على مستوى التحالفات التي تجد أوروبا نفسها منقسمة على ذاتها، وتتنازعها أولويات الصراع بين البحث عن هوية داخل تلك الاصطفافات الخاصة بها، وبين التبعية المطلقة لأميركا التي فرضت على القرار الأوروبي الغياب لعقود خلت، وبات من الصعوبة بمكان الثقة بإمكانية استرداده في المدى المنظور واستحالة الأخذ بالتجربة الأوروبية، من دون العلاقة مع الأميركي، باعتبارها بنت سنوات من وجودها على دور ساعي البريد في تسويق المواقف الأميركية، وفي كثير من الأحيان المسوِّق للحروب الأميركية.
قمة سوتشي -كحدث مفصلي- أخذت حيِّزها في الإعلام والسياسة والدبلوماسية، وبنت التحليلات والآراء والنقاشات الكثير من مفرداتها ومصطلحاتها وتعابيرها على التفاصيل المطولة عبر طيف القضايا التي أدرجتها على جدول أعمالها، لكن يبقى الأهم هو ما بعدها، وما ستمليه من مقاربات تقتضي في الحدِّ الأدنى الأخذ بما سيلحقها من محاكاة لا تكتفي بما سجلته العلاقة السورية الروسية، بقدر ما ستسهب في قراءة متأنية ومتابعة دقيقة وتفصيلية للقادم من أحداث على ضوء ما خلصت إليه قمة سوتشي، وهو -كما تشي العناوين– يملي إضافات نوعية يمكن قراءتها بوضوح من خلال سطورها التي لا تزال تحتاج إلى الكثير من الوقت حتى نتبيَّن تفاصيل ما خطته من رسائل.
a.ka667@yahoo.com