هذا النهر المتدفق الذي نبع من غير أرضنا، وحفر مساراً له عندنا عميقاً قد اجتاحنا بشكل كامل حتى كاد أن يغرقنا.. فهل أصبحنا بحاجة لمن يهزنا حتى نتنبه الى موقعنا من هذا التيار الجارف؟..
إنه نهر العولمة وما تبعها من ثورة تكنولوجية، وتقنيات، وبرامج حديثة برعت في تنامي المعرفة، وفي ربط الناس بعضهم ببعض في كافة أرجاء المعمورة من القطب حتى أقاصي الأرض.. وفي كل يوم تظهر على الساحة مخترعات جديدة، وأساليب حديثة لتستلب الكبار والصغار معاً، وتستحوذ بالتالي على مشاعرهم، وعقولهم.. والأهم أنها تمتص أوقاتهم على حساب ما هو أهم من تطوير للذات، والسعي لواقع أفضل.. وهي تسرق الأيام لصالح حالة الانبهار بهذا الجديد المتجدد، والذي يتصاعد معه الانفعال، والرغبة في الاكتشاف.. فالإغراء كبير، ومثير للاهتمام.. حتى إذا ما تسارع تدفق النهر استحوذ على المرء ليصبح أسيراً له.
لا يمكن لنا أن ننكر إيجابيات ما بات واقعاً، فكم وكم من النتائج المبهرة حصلنا عليها نتيجة هذا التطور في كل المجالات من تجارية، واقتصادية، وثقافية، وفنية، واجتماعية، وغيرها كثير.. حتى تحققت هذه القفزة النوعية للبشرية الى أن اخترقت الفضاء.
أدوات، ووسائل أوجدها مَنْ أوجدها للتطوير، والتغيير.. فالذكاء الصناعي الذي نما في العقود الأخيرة بات فاعلاً، ومؤثراً في كل جوانب الحياة، فهو القادر على معالجة كم هائل من المعلومات، والبيانات، وهو القادر على الوصول الى نتائج، واستنتاجات بما يفوق قدرات الأفراد بعشرات المرات، ومهما بلغت تلك القدرات من إمكانات.
إلا أنه بالمقابل ألم نصبح أكثر اعتماداً على هذا الذكاء الصناعي بحيث بات أغلبنا أقل استخداماً لذكائه الفطري ما دامت الحلول والنتائج تأتي جاهزة دون جهد، أو عناء يُذكر؟ أم أن علينا أن ننظر فقط لمن يطوّر ذلك الصناعي، ويتطور معه، دون الرجوع الى الأعداد الكبيرة من البشر ممن أصبحوا يعتمدون اعتماداً كاملاً على ذكاء صناعي متفوق يؤمن لهم كل ما يحتاجون اليه؟!
ولكن.. بعدما أصبحنا نستخدم الذكاء الصناعي بشكل فعّال ومؤثر في كل الاتجاهات، ماذا سيحل بهؤلاء وغيرهم إذا ما انهارت تلك القنوات الذكية فجأة دون سابق إنذار لسبب ما قد يكون ذكياً أيضاً بنسبة تفوق قدرة من ابتكر، واخترع، وأوجد في مواجهته؟
إذ ما توقفت الشبكة العنكبوتية، أو تعطل موقع التواصل الاجتماعي الشهير لبعض الوقت تقوم الدنيا، ولا تقعد.. وينشغل الناس بالحديث عنها، وهذا ما حدث بالفعل مع موقع التواصل منذ وقت ليس ببعيد، إذ شعر أصحاب الصفحات وكأن عالمهم قد انهار بالكامل، ليقفوا عاجزين كمن أصبح تحت خيمة في العراء، وكما لو أن الموقع هو السقف الذي يحمي، أو أنه مصدر الهواء الذي يتنفسه المرء.
وأعود لأتساءل: هل هذا الذي يُطرح أمامنا ودون عناء منا، وبإمكاننا ببساطة وسهولة تامتين أن نمد أيدينا اليه إنما يهدف الى تطويرنا، أم أن غايته تخديرنا لنتحول الى أشكال وهمية، أو هلامية مهمتها التلقي فقط؟.. فإذا بنا نفقد حس الابتكار.
ورغبة المشاركة في الاختراع، ما دامت الأمور بهذا اليسر تأتي إلينا، ولا نذهب اليها، وفي عثورنا على كل ما يخطر، أو لا يخطر على البال من مبتكرات، ومخترعات تفيدنا، وفي الوقت ذاته تسلينا، وتجعل من أوقاتنا أكثر بهجة، وروعة، والذكاء الصناعي بإمكاناته الكبيرة يسعفها بمزيد من المخترعات التي وصلت الى الإنسان الآلي وقد بات يقوم بأغلب المهام ليحل في المنزل، أو في مكان العمل، بل في أغلب الأماكن.. وحتى الحيوانات الأليفة لم تنجُ فقد أصبح لها بدائل آلية تحقق لمن يقتنيها الغاية ذاتها.
وها نحن إذا ما فتحنا الأعين واسعاً.. وجدنا أنفسنا نقف في المنطقة الوسط بين التطوير والتخدير.. الأول هو بفضل ما وصل إلينا من وسائل الحضارة.. والثاني بسبب ما استسلمنا له دون أن نشارك في إنتاجه.. والأجدر أن تكون الخطوات العملية والعلمية لنا نحو التطوير بعد كل هذا الذي أصبح متاحاً.. لا أن ندخل الى طور التخدير بما يمكن لهذه الوسائل الحديثة من أن تفعله بنا.
إضاءات
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 26-10-2018
رقم العدد: 16820