من المشاعر الإنسانية ما لا تستطيع الكلمات أن تصل الى أعماق محيطها.. وهي أغنى من كل الحروف لأنها لا تستطيع أن تصف زخمها، وحرارتها.. بل هي نبض الحياة لتستمر، وتزهر..
إنها تلك العاطفة التي تربط بين الأباء، والأمهات وأبنائهم من البنات، والأولاد.
لكن هذه المشاعر التي هي في الحقيقة عبارة عن روابط قد تتعرض الى ما يخدشها، أو يكسرها إذا ما أساء أحد الطرفين اليها، أو أنه لم يحسن التعبير عنها من خلال السلوك. ولعل هذه المشاعر المحكومة بعاطفة الحب هي التي تحكم بالتالي الإحساس باستمرار الحياة، والرغبة فيها.
وبسبب واقع بات معروفاً سافر الأبناء.. وامتلأت المآقي بالدمع.. والغصة تنغرس سكيناً في القلب.. لكن منهم مَنْ لم يسافر.. فهو مازال في الجوار، ولم يغادر.. إلا أن الغصة هي ذاتها.. كما الدمعة هي ذاتها.. عندما يبتعد الأبناء، ويبقى الآباء ومعهم الأمهات وحيدين في استقلال تام عن حياة الأبناء.
يكبُر الأهل، كما يكبُر الأبناء.. والصلة تظل معقودة بين الطرفين لا تنفصم لكنها في بعض الحالات قد تخفت.. وإذا ما خفتت، أو تقلصت فإن المسافات تصبح قادرة على أن تحجب الود عند نقطة هي للعطف لا للعاطفة.
قد تكون المسافات جغرافية تلك التي تفصل بين الطرفين، وقد تكون أخرى معنوية.. فإذا بالعلاقة بين الأبناء ووالديهم تتحول من خلال ما يقدمونه لهم الى واجب إنساني لا أكثر، والى عطف على من بات كبيراً في السن، لا الى عاطفة تربط هذا بذاك. والأبناء يجدون المبررات لما يقومون به من ظروف اقتصادية، ومعيشية قاسية، أو أوقات لا تسعف بإنفاقها الى جوار الأب، أو الأم حتى ولو أصبح أحدهما وحيداً في داره.. لتغيب بالتالي تلك الاحاسيس التي تجلب السعادة لكلا الطرفين.. ويغيب الشعور معها بما يحس به الآخر سواء أكان أباً، أم أماً وحيدة.
ويحضرني هنا ما لخصته بشكل دقيق الكاتبة، والباحثة في علم الاجتماع (برينيه براون) في كتابها (كنت أظن أنني وحدي) وهي تصف حالة العطف، والتعاطف كبئر عميقة سقط فيها شخص ما يصرخ بأنه عالق في قعرها، وبينما هناك من ينزل اليه الى أعماق البئر ليقول له: أنت لست وحيداً هنا، وأنا معك.. يوجد آخر يقول لذلك الشخص المنفي في البئر: أنت في وضع صعب أليس كذلك؟ هل تريد بعض الطعام لآتي به اليك؟ أو ما يساعدك للبقاء في الأسفل؟
إن الفرق بين العطف والعاطفة يشكل حجر أساس في أي علاقة متبادلة بين طرفين، فما بالنا بطرفين تعتبر العلاقة بينهما من أرقى العلاقات الإنسانية وأهمها، التي تقوم على عاطفة الحب؟.. أما الشفقة فربما أدت الى انقطاع ذلك الحبل السري الذي يربط بين اثنين في معادلة حب واحدة.
وإذا كان الأبناء يعتقدون أن بر الآباء، والأمهات يتلخص بتقديم ما يلزم مما يتطلبه العيش فإن الآباء يتطلعون الى من يهتم بوجودهم فلا يهملهم، والى من يشاركهم في أوقاتهم فلا يقعون فريسة للوحدة، والى من يفيض عليهم بالعاطفة فلا يجف ما بقي ما أعمارهم بعد أن جفت عروقهم.
إن العلاقات الأسرية في المجتمعات الشرقية عموماً هي أكثر تماسكاً، وترابطاً مما هو حالها في الغرب، ولهذا لا نجد كثيراً ممن يعانون من حالات الوحدة، أو الانعزال عن أسرهم.. إلا أن من أنماط الحياة المعاصرة والسريعة، والتي تتسم بالحداثة ما ساهم في تغيير العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة حتى أصبحنا نجد أفراداً بات حالهم كحال الأسرة الغربية من انفصال الأبناء عن أهاليهم.. إلا أنهم في الغرب أوجدوا حلولاً بديلة في مساعدة كبار السن ممن ابتعد عنهم أولادهم ليتغلبوا على مشكلة الوحدة، والعزلة، وفتح قنوات للحوار، والتواصل مع الآخرين من خلال تقنيات حديثة تؤمن لهم صديقاً افتراضياً يتحدث معه المرء حينما يشاء، ويطلب اليه من خلال الأوامر الصوتية أن يقوم ببعض المساعدات.. فهل سيكون لمثل هذه التقنيات سبيلها إلينا عما قريب بعد أن أصبح العطف على الأهل بديلاً للعاطفة؟
وبينما الأبناء يقولون لوالديهم: لا تخافوا.. فنحن مازلنا في الجوار.. فإن الأهل يقولون في سرهم: وما فائدة حضور هو كما الغياب؟!
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 2-11-2018
الرقم: 16826