تتنوع المجتمعات، وتتنوع بيئاتها التي تنعكس على سلوك أفرادها، إلا أن الثقافة كما الحضارة هما ما يتجليان من خلال الممارسة العملية، والتصرف. أما المشكلات الاجتماعية فهي قائمة في كل المجتمعات، لكن درجاتها تختلف من مجتمع لآخر تبعاً للوعي المجتمعي، وما رسخ في الذاكرة الجمعية، وما نشأ عليه الأفراد، ولا يخفى ما للتعليم والثقافة من تاثير في هذا السياق، فالمتعلم الذي حصل على شهادة سواء مدرسية أم جامعية يكون عموماً على درجة من الوعي أكبر ممن لم يسعفه الحظ في نيلها، وكذلك هو فعل الثقافة.
لقد أهتم علم الاجتماع كما علم النفس في دراسة سلوك الافراد، والجماعات، وردود أفعالها تجاه المواقف الحياتية، والعوامل المؤثرة في ذلك.. لكن التنبؤ بالسلوك الإنساني رغم كل المعطيات يظل دون مستوى التوقعات، والفيلسوف والمفكر الفرنسي (جان بول سارتر) يقول: (إنه لا يمكن التنبؤ بالسلوك الإنساني). فما هو غير متوقع قد يصبح واقعاً.. لكن المؤكد أن الإنسان هو نفسه في كل مكان، وكل زمان.. هي فقط المعايير التي تختلف من زمن لآخر، ومن مكان لآخر.
وها هو ابتكار (الجمعة السوداء) الذي ظهر في الغرب بهدف ترويج التسويق يأخذ حيزه واسعاً، وقد امتدت العدوى به الى بلداننا لكن تحت لون مختلف لتكون (الجمعة البيضاء)، ونحن نسير فوق آثار خطى غربية، ولو لم تكن لدينا مثل ضائقاتها الاقتصادية.. وهذا الابتكار على أي حال ليس بصرعةٍ جديدة، أو بدعةٍ حديثة، بل هي نظرة اقتصادية، وحلول واقعية لمحاربة كساد البضائع عن طريق بيعها بأسعار زهيدة لكنها تضمن حركة رأس المال.. حلول اقتصادية ذكية تعود الى القرن التاسع عشر عندما تعرضت الولايات المتحدة لأزمة مالية كارثية. ليصبح الأمر تقليداً سنوياً يجري كل عام في الفترة التي تسبق أعياد الميلاد، ورأس السنة. لكن اللون الأسود لم يلتصق بيوم تخفيض الأسعار إلا لما يتسبب به من ازدحامات مرورية، وفوضى في المحال التجارية.
إلا أن المفاجأة في اليوم الأسود تكمن في عدم توقع ردود أفعال الناس تجاه يوم كهذا يتدافعون فيه ليشتروا كل ما يلزم، وما لا يلزم بأبخس الأسعار، وهي فرصة ثمينة بالنسبة لهم لا تتكرر إلا في توقيت معين من كل عام.. ويبدو أنها تظهر أخلاق البشر حتى في المجتمعات التي تصف نفسها بأنها قطعت أشواطاً في الحضارة، وأنها من العالم المتقدم.. لتظهر الصورة عارية على حقيقة طبائع البشر، وغرائزهم، وأنهم من طينة واحدة سواء أكانوا في البلدان المتقدمة أم في سواها من النامية، أو التي صنفوها تحت اسم العالم الثالث،
وها هي وسائل الإعلام الأميركية تتناقل أخبار يوم الجمعة السوداء وسعار الشراء لهذا العام وقد شارف على الانصرام، وأعياده باتت تقرع الأبواب.. إذ تناقلت كما مواقع التواصل فضائح ذلك اليوم الذي بات بالفعل أسودَ في تعبيره عن سلوك الناس العفوي وهم يتدافعون، ويتشاجرون الى حد إطلاق الأعيرة النارية، ووقوع مصابين بهدف الفوز بصيد ثمين لا يتحقق إلا في يوم هو ليس كسائر الأيام في البيع والشراء، سواء من المحال التجارية أم من خلال المواقع الإلكترونية التي فتحت أبوابها هي الأخرى لمن يسأل، ويرغب بالوصول الى عروضها الشرائية التنافسية.
وكأنها الفضيحة لبلاد آثرت أن تكون النموذج المثال لكثير من البلاد والعباد.. فمن يتطلع الى الحلم الأميركي لا يتوقع أن يصيبه سعار الشراء إذا ما وطئ تلك الأرض كما أصاب أهلها، ولا شك أن الدافع الاقتصادي هو وراء كل ذلك سواء للبائع أم للمشتري.
سوداء.. أو بيضاء.. كلها توصيفات تقع على حد سواء.. لتعبر فيما تعبر عن رغبة الناس في الاقتناء.. والحصول على ما يرغبون به من الأشياء.. فنحن في عصر الاستهلاك الذي لم ينج منه أحد.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 30-11-2018
الرقم: 16849