لم يكن ما حدث في مجلة ديرشبيغل سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته الكثير من الفضائح التي لا تقتصر بالضرورة على المجلة الألمانية التي كانت على الدوام تفاخر بمصداقيتها، وتعتبر نفسها الأقدر على المستوى العالمي في دقة أخبارها وموضوعيتها، حتى تحوّلت إلى مثلٍ يحتذى في العالم الغربي على الأقل في التعاطي مع الأحداث، وبنت على تلك الهالة الإعلامية مجدها وسط التلاطم الهائل في أمواج التنافس والصراع المحتدم على البقاء.
السقوط المدوي ليس حكراً ولا حصرياً على الإعلام ووسائله وتحديداً في الغرب، فالمعطيات تشي بأنه يجرّ خلفه سياسيين ورجال فكر وأهل علم، ذهبت بهم لوثة الفبركة حتى باتوا جزءاً من منظومة غربية امتهنت الكذب والافتراء، بمن فيهم رؤساء الدول، حتى إن واشنطن بوست أحصت كذبات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فوجدت أن معدل كذبه اليومي خمس مرات ونصف المرة تتنوع بين السياسة والاقتصاد والإعلام وسواها من المجالات الأخرى، التي وجد فيها مناخاً خصباً لممارسة دوره الفاضح كظاهرة لم تعتد عليها السياسات الدولية، ولم تألف حصولها من السياسيين الذي يقسمون اليمين على المصارحة.
الكذب الغربي لم يكن بريئاً في دوافعه.. ولم يكن هواية يلجأ إليها البعض، ولا هو ظاهرة استثنائية دفعت باتجاهها بعض الظروف الناشئة، بل كان في أغلب الأحيان سلوكاً في السياسة الغربية استمرأت عليه الدول الغربية في العموم، ونهج درج عليه ساسة الغرب.. ومهنة وضعوا لها قواعد ناظمة وأسساً باتت في عرف الغرب مشهداً طبيعياً، يمكن أن تصادفه عشرات المرات، حتى إن البعض يأخذه في غير موضعه عندما يكون غير ذلك، لتصبح الشعارات الكاذبة مجرد قناع يخفي خلفه كوارث الغرب ومعضلاته وأطماعه، التي تحركها الشهوة وتقودها غريزة السيطرة والاستلاب والهيمنة، التي تستبيح من خلالها العالم من غربه إلى شرقه، ومن جنوبه حتى شماله وما بينهما.
الفرق بين كذب الأمس وكذب اليوم أن الصحافة وتحديداً ذات المصداقية العالية كانت تقول على ذلك كسلاح تواجه فيه الخصوم والمشككين، وتلاحق السياسيين الذين يلجؤون إلى الكذب والافتراء، فإذا بها تقع في المحظور الذي طالما اعتقدت أنها خارج سياقه، وأنها لن تضطر يوماً إلى المحاججة فيه، خصوصاً أن الأكاذيب وتلفيق الأخبار واختلاق الروايات لم تكن لمرة واحدة، بل استمرت لسنوات طويلة، واكتشاف الأمر يدين المجلة أكثر مما يبرئها، حيث الكثير يرى فيه محاولة يائسة لتبييض صفحة بدت تحت ضغط الشعور بقرب انتهاء الكذبة التي كانت شريكاً أساسياً فيه، لتكون المجلة إحدى ضحايا الحرب التي فرضت على سورية والحبل على الجرار.
ديرشبيغل التي سقطت هذا السقوط المريع سبقتها إمبراطوريات إعلامية كثيرة، وجميعها كانت شريكة في الكذب و في سفك الدم السوري، كما كانت الكثير من السياسات العالمية شريكة في ذلك، والمؤسف أن يبقى المنهج ذاته هو المسيطر، والكذب مستمر حتى إشعار آخر في الإعلام وفي السياسة من إعلاميين وسياسيين كانت المصداقية رصيدهم الذي يحاججون به، والشعارات الرنانة والخادعة سلاحهم الذي واجهوا فيه جمهورهم لدى الخصم والصديق على حد سواء، ليكون الإعلام الخاسر الأكبر.. والحقيقة الضائع الأكبر، حيث لا ينفع معاقبة محرر أو مسؤول تحرير.. فالضحية شعوب ودول وأمم.
a.ka667@yahoo.com
بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الجمعة 4-1-2019
الرقم: 16876