قوة المعرفة… ومجتمع المعرفة

 

حرص الغرب تاريخياً وانطلاقاً من مقولة رسالة الرجل الأبيض، والتي تعكس عنصرية ثقافية إلى منع جسر الهوة المعرفية بينه وبين دول الشرق،
والحفاظ على الفارق العلمي والمعرفي معه ما يجعله متقدماً على شعوب المنطقة، وعمل جاهداً على توسيع تلك المسافة لجهة أن الالتحاق به أو منافسته علمياً وتقانياً سيفقده كل أو أغلب عناصر التفوق لديه لذلك نراه يسعى ويعمل بكل ما يمتلكه من إمكانات عسكرية واقتصادية وسياسية واستخباراتية للحفاظ على ذلك البون الذي يتحول مع الزمن إلى مسافة حضارية كما يرغب راسمو استراتيجياته، لهذا كله عمل الغرب الاستعماري على إبقاء شعوب المنطقة في حالة تخلف علمي وتقاني وتشظ مجتمعي عبر استراتيجية محكمة ذات منهجية واضحة المعالم وعبر سيناريوهات وآليات مختلفة بدءاً من النهب المستمر لثروات المنطقة من بترول وغاز ومعادن وغيرها، والحيلولة دون تحويل هذه الثروات إلى طاقة علمية ومعرفية وتقانية عبر الاستثمار في الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية وإقامة الصناعات الاستراتيجية والتنمية البشرية بأشكالها المختلفة وتطوير الزراعة وأساليب الري والتوسع في التعليم وجودته والإدارة الذكية للموارد المادية والبشرية وصناعة الكادر النوعي، وعلى العكس من ذلك حرص على إنفاق ما تدره هذه الثروات من أموال باتجاه النفقات الاستهلاكية والخدمات الترفيهية ومظاهر التبذير والإنفاق غير الضروري، إضافة إلى شراء الأسلحة وتكديسها والمنافسة في مظاهر البنيان المادي من فنادق ومطاعم ونوادي وناطحات سحاب وسيارات فارهة ومسابقات رياضيه وشراء أندية في دول الغرب ذاتها وغيرها من مظاهر رفاه مادي غير منتج ولا شك أن العولمة الاقتصادية والإعلامية وما كرسته من ثقافات وتوطين لقيم بعينها كان لها الدور الأساسي في تحقيق ذلك ما جعل من ثقافة الاستهلاك التبذيري والنفعي مظهراً عاماً من مظاهر السلوك لدى العديد من أبناء الشعوب المستهدفة ما ساهم في نسف وإعادة ترتيب سلم القيم والثقافة المجتمعية لدى قطاعات واسعة منها ولا سيما شريحة الشباب.
ولم تقف المسألة عند حدود تكريس نمط سلوكي وثقافة استهلاك أو توجيه قسري للموارد عند تلك الشعوب أو الأفراد المستهدفين بتلك السياسات وإنما أخذ طابعاً آخر في التعامل مع دول أخرى اتبعت قياداتها نهجاً مغايراً في استراتيجياتها التنموية وطريقة استثمار مواردها وطاقاتها المادية والبشرية بهدف تحقيق تنمية حقيقية وذاتية تستند إلى قاعدة علمية ومعرفية وبنيان في الإنسان والبشر لا الحجر وهنا نذكر العديد من الدول التي نهجت ذلك النهج ومنها مصر وسورية والجزائر والعراق وإيران وكوبا وكورية الديمقراطية وبعض دول أميركا اللاتينية ما جعل هذه الدول وقادتها في دائرة الاستهداف الغربي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وتحت عناوين كاذبة ومضللة من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة والحكم الرشيد والإصلاح أو اتهامها بدعم الإرهاب والديكتاتورية والتسلط وغير ذلك من مفردات وادعاءات بات الجميع يدركها ويحفظها عن ظهر قلب.
إن الجزائر ما كانت لتستهدف في تسعينيات القرن الماضي عبر الإرهاب لو لم تكن قد قطعت شوطاً واسعاً في التصنيع والأتمتة والإدارة الذاتية، وكذلك مصر في عهد عبد الناصر حيث حققت نجاحات كبيرة في التصنيع الحربي وبناء القاعدة المادية لاقتصاد منافس وبنية علمية وبحثية متقدمة، ومراكز أبحاث ودراسات وجامعات خرجت كوادر ذات تأهيل علمي عالي المستوى منهم علماء طاقة وذره وفضاء استهدفهم الموساد الإسرائيلي حيثما تواجدوا. كذلك الأمر في سورية حيث استهداف بنيتها الاقتصادية والعلمية والثقافية وقوتها العسكرية والسعي الممنهج لتدمير مرتكزات نهضتها الحضارية على أيدي التنظيمات الإرهابية ولا ننسى استهداف مراكز الأبحاث العلمية في محيط العاصمة، وقبلها في موقع الكبر شمال شرق سورية من قبل العدو الصهيوني إضافة لاستهداف خيرة الكوادر والقانات العلمية والبحثية والطبية من قبل الإرهابيين في ثمانينيات القرن الماضي. أما في العراق فالكل يتذكر تدمير المفاعل النووي العراقي عام ١٩٨١ من قبل العدو الصهيوني وأدواته في المنطقة، إضافة إلى استهداف العراق كدولة وقتل الآف من العلماء العراقيين قبل وبعد الغزو الأميركي البريطاني للعراق عام ٢٠٠٣ إضافة إلى تدمير الإرث المادي واللامادي له راهناً، ولعل ما تواجهه إيران راهناً من استهداف لبرنامجها النووي واغتيال العديد من علمائها هو وجه آخر من أوجه هذه الحرب اللانمطية التي يشنها الغرب الاستعماري على دول وشعوب بعينها بهدف ثنيها عن تحقيق استقلال معرفي وعلمي عنه يكرس ويعزز استقلالها السياسي.
والحال.. إننا نعيش في عالم حروب معرفيه وتقانية حيث لم يعد العلم والمعرفة أدوات بناء ذاتي بقدر ما هي أدوات نفوذ وقوة ناعمة قادرة على تحقيق أهداف كبرى في عولمة هي بالتعريف قوة التقانة ونفوذها وسطوتها، وإذا كانت القوة العسكرية الخشنة في يوم من الأيام أدوات الاستعمار التقليدي المباشر فلا شك أننا اليوم نعيش عصر القوة الناعمة أو قوة التقانة والإعلام والثقافة دون إغفال القوة العسكرية لكنها قوة ردع عند الضرورة أو بالوكالة ولعل ما قاله الرئيس الأميركي روزفلت في بداية القرن العشرين: تكلم برفق واحمل عصا غليظه هو حقيقة قائمة راهناً.
د. خلف المفتاح

khalaf.almuftah@gmail.com

 

 

التاريخ: الأثنين 21-1-2019
رقم العدد : 16890

آخر الأخبار
أحداث الساحل والسويداء أمام القضاء.. المحاكمات العلنية ترسم ملامح العدالة السورية الجديدة وزمن القمع... الاقتصاد في مواجهة "اختبار حقيقي" سوريا وقطر.. شراكة جديدة في مكافحة الفساد وبناء مؤسسات الدولة الرقابة كمدخل للتنمية.. كيف تستفيد دم... إعادة دراسة تعرفة النقل.. فرصة لتخفيف الأعباء أم مجرد وعود؟ منشآت صناعية "تحت الضغط" بعد ارتفاع التكاليف وفد روسي ضخم في دمشق.. قراءة في التحول الاستراتيجي للعلاقات السورية–الروسية وزير الخارجية الشيباني: سوريا لن تكون مصدر تهديد للصين زيارة الشرع إلى المركزي.. تطوير القطاع المصرفي ركيزة للنمو المؤتمر الدولي للعلاج الفيزيائي "نُحرّك الحياة من جديد" بحمص مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية الطب البشري بعد التحرير خطة إصلاحية في "تربية درعا" بمشاركة سوريا.. ورشة إقليمية لتعزيز تقدير المخاطر الزلزالية في الجزائر    السعودية تسلّم سوريا أوّل شحنة من المنحة النفطية تحول دبلوماسي كبير.. كيف غيّرت سوريا موقعها بعد عام من التحرير؟ سوريا تشارك في القاهرة بمناقشات عربية لتطوير آليات مكافحة الجرائم الإلكترونية جمعية أمراض الهضم: نقص التجهيزات يعوق تحسين الخدمة الطبية هيئة التخطيط وصندوق السكان.. نحو منظومة بيانات متكاملة "أتمتة" السجلات العقارية.. هل تحمي الملكيات وتمنع الاحتيال؟ متري إلى دمشق.. علاقاتٌ تعود إلى مسارها الطبيعي بعد طيّ صفحة الأسد المخلوع نساء سوريات يصفن الرعب الذي تعرضن له في سجون الأسد المخلوع