ثمة تداعيات مختلفة فرضها الزمن الذي تحدّد فيه تفكيك النظام الرسمي العربي، وخلق مساحات عربية داخلية لتناقضات سياسية، وإثنية، ودينية مذهبية رُسم لها أن تستمر لزمن طويل يكون فيها المجتمع العربي الوطني، والقومي قد دخل النفق المجهول نهايته، وغرق في الظلام الذي لا تعرف مرارته. وليست البرهة التي مرّ بها العرب من 2011م حتى اليوم هي الأولى في تاريخ العرب شعباً، وأنظمة فقد تعاقبت المحن عصراً بعد عصر والعرب يغرقون إلى أذنيهم فيما خطط الأعداء لهم فاقدين الوعي اللازم في اللحظة المناسبة، وخاسرين المبادأة المطلوبة في الوقت الحاسم. وكم رأينا بعضاً من أبناء جلدتنا يناصر الأعداء على أهله وذويه ويتصرف بالتسامح مع عدونا، ويشهر سيوفه على أبناء عمومته. فالسيوف عند هؤلاء قاطعة في سورية، واليمن، والعراق، ولبنان، وليبيا، وتونس، ولا يمكن أن تُسحب من غمدها إذا تعلّق الأمر بالقدس، وتهويد المقدّسات، ولا بفلسطين وابتلاع الحقوق. ومن غريب الطبع، والطبيعة عند من يحتسبون على الأعراب أنهم جاهزون للاندراج في حبائل أعداء العرب، ومستعدون لدفع أكلافها ولو أن الذي يحتل أرضهم ما زال على احتلاله، ويمتلك الوقاحة بأن يعلّمهم شؤون حياتهم، ويحدّد لهم عدوّهم الجديد بدلاً عنه. فمن يهاجم سورية بالصواريخ، ويهدّد المطارات المدنية ليس معنياً بالمساءلة من هؤلاء، ومن يقصف غزّة، والضفة ويقتل الأطفال والنساء، والشيوخ على أرض فلسطين ليس معنياً بالمساءلة.
أما المسؤول المعني هو من يقف في طليعة المنظومة الإسلامية مسانداً للعرب والعرب الفلسطينيين بخاصة لكي يتواصل كفاحهم ضد المشروع الصهيوني الاحتلالي الاستيطاني العنصري. نعم المسؤول المعني – ولو كان من ديننا، ومن جوارنا الجغرافي- هو من يرفض الإذعان للمشروع الصهيوني، ويضع كافة إمكاناته مع العرب، والمسلمين الرافضين له، والمكافحين ضده حفاظاً على المقدّسات التي فيها ميلاد الأنبياء، ومعراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الصورة من الخنوع الأعرابي لا تماثلها صورة لدى أهل الأرض فسورية لم يأتِ وقت العودة إليها، والعمل معها في الجامعة، بينما إسرائيل لها منهم الوقت الدائم لأن يكونوا معها إن كان في مشاريعها الصهيونية، أو في عدواناتها على الدول العربية المقاومة للمشروع الصهيوني، أو في حضور مؤتمرات التآمر علينا وآخرها في هذه الآونة مؤتمر وارسو الذي سيكون منه الحلف الجديد كما تحدّث بومبيو ضد إيران؛ وإسرائيل عضو فيه وكأنّ فلسطين ليست محتلّة، وشعبها ليس مشرّداً، والقدس لا تهوّد. يضاف إليه أن الأعراب ليسوا معنيين بمؤتمر لقمة اقتصادية يتداول فيه المعنيون باستراتيجيات التنمية المستدامة على صعيد المجتمع العربي، ولا متطلبات النهوض بالمستوى المعيشي للمواطن العربي من المحيط إلى الخليج مع العلم أن العرب فيهم اليوم النسبة الأكبر من هم تحت خط الفقر من العالم، وفيهم ما لا يزيد على /54/ مليون شاب عربي يفتقدون العلم، والعمل، والأمن الذاتي والاجتماعي.
نعم لا يهم من يمسكون آلية الجامعة خدمة أمتهم، ولا يشعرون بأية صلة بمصيرها فكل ما يستطيعونه هو المضي بخدمة الأعداء فوزير خارجية قطر معني بتوسيع قاعدة (العديد) أمام القوات الأميركية، وليس معنياً بالمستقبل لأي من العرب في مشرقهم، أو مغربهم، وحين تكون سياسة الأعراب تنتظر دوماً التوجيه الصهيوأميركي لها حتى تتصرف ضد أيّ بلد عربي، أو معه فيحق للعرب الآخرين أن يتوقفوا عند خطورات مثل هذه السياسات على الوجود العربي المشترك، والقضايا العربية العادلة، وشكل الحضور الدولي برمته لأمة تعيش ما بين المحيط والخليج. وبناء عليه يستوقف الأعراب اليوم النصر السوري على الإرهاب؛ وطالما حدث هذا النصر على حساب فشل مشاريعهم التي فرضت عليهم أميركا حملها ضد النظام العربي، وضد دول المقاومة، وجبهتها فنراهم اليوم في حالة ارتباك لا مثيل لها، فما زالوا غير قادرين على تحريك مشروع داخلي في سورية حيث حسم الشعب هذه المسألة، واتضح عجزهم أمام الحلف الأمروصهيوني عن حمل مشروع إقليمي كذلك ولو أبدوا -أي الأعراب- استعداداً للانخراط في الناتو العربي المزمع، وبالقيادة الصهيوأميركية له.
ووفق هذا الحال نجد السياسات في تلك الجغرافية المعنية متضاربة ومتصادمة وشهدنا الحلف ضد قطر، كما شهدنا التفافات قطر، كل ذلك يشير إلى أن القرار العربي المستقل ليس موجوداً عند من ارتهن للصهيونية وداعمها الدولي، وخرج من وجود أبناء عمومته، ومصيرهم المشترك. ومن منظور آخر نراهم ـ أي هؤلاء المرتهنون للغرب المتصهين ـ ينتظرون الأوامر حيث يعلنون عن فتح السفارات في دمشق، ويحجمون عن التطبيع الكامل الدبلوماسية، ونراهم يتعاملون باعتراف مرغمين عليه بالنصر السوري على الإرهاب، لكنهم لا يتصرفون بمقتضيات، فهم مع الاحتلال الأميركي لجزء من الأرض السورية، وهم مع توريط الأمريكي للكرد الانفصاليين، وهم مع أردوغان في وجود قواته على أرض سورية، وهم معه في هجومه المزمع على الأكراد السياسيين. وهم مع الحل السياسي لكنهم مع دستور لا يحرص على وحدة مصير سورية أرضاً وشعباً.
إذاً؛ رغم الوجود الأميركي والأطلسي لم تستطع أميركا حسم القرار الإقليمي، فالقرار الأهم لسورية وحلفائها. كذلك لم تستطع أميركا خلق توازنات سياسية، وعسكرية تفرض صورة القرار الذي تريد، وقد وقعت أميركا كما قال الجنرال الأميركي المتقاعد كيميت في ندوة الانسحاب الأميركي الذي أعلن عنه ترامب في 19/12/2018 : « إن العلاقات بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب في سورية هي علاقات مؤقتة، ووظيفية، وتكتيكية.
ولم يعترف بكونها شريكاً شجاعاً وديمقراطياً للولايات المتحدة، ولفت إلى أن المواجهة بين تركيا، وبينهم ـ أي وحدات حماية الشعب ـ لا مفرّ منها معتبراً أن اضطرار واشنطن إلى الاختيار بين حليف في الناتو، وبين وحدات حماية الشعب يعدّ من الأسباب المشروعة للانسحاب من سورية». والأمر الآخر الذي سوف يشقّ على أردوغان خاصة بعد اجتماعه الأخير مع بوتين هو عدم قدرته على مغادرة الدول الضامنة ، وتوافقات آستنة، وسوتشي، وعدم قدرته على رفض ما توصل إليه ترامب بخصوص تشكيل منطقة آمنة شمال سورية وهذا يعني أن التوازنات الأميركية، والتركية في منطقتي شرق الفرات، وغربه لن تكون لمصلحة الطرفين باعتبار أن استراتيجية المواجهة لسورية وحلفائها سوف تتعامل مع تلك التوازنات، وستكون الحرب على الإرهاب محتمة، والمنطقة الآمنة على الشريط الحدودي السوري -التركي لن تتحقق لأنه- ولو وعد مؤسس شركة بلاك ووتر بإمكانية استبدال القوات الأميركية في سورية بعناصر من شركته. وسنصل في نهاية المطاف بعد أن تكون الدولة الشرعية قد رصدت مع حلفائها الاستراتيجية المناسبة في شرق الفرات، وغربه، وفي إدلب لتجميع القوى الشعبية التي لن تقبل بالوجودين: الأطلسي، والتركي، ولن تقبل بالتقسيم والانفصال حتى تنهي هذه القوى الرهان الأميركي بأن الأطراف المتصارعة في شرق الفرات، وغربه لن يصل أحد منها إلى نصر ليكون النصر في نهاية الجولة للدولة الشرعية القادرة على تبديل الرهانات الوهمية بواقعية ميدانية حاسمة لكل قرار، ومنهية أدوار القرارات الخارجية.
د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 28-1-2019
الرقم: 16895