تراهن أميركا- ولطالما راهنت- في حروبها على أن تشحن حلفاءها وتجرهم وراءها، وهو الدرس الذي تعلمته بعد هزيمتها في جربها على فيتنام، فمن صربيا إلى أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسورية، ورطت دول عديدة في حروبها الباحثة عن السيطرة والنهب أملاً بنيل الحصة الأكبر إن نجحت فيها، والشذرات لحلفائها، أما إن فشلت الفشل كله يقع على كاهلهم.
فلماذا يسيرون خلفها خبط عشواء في معظم الأحيان ما دام معظم حروبها ينتهي بالفشل، إلا بدمار تلحقه بالدول المستهدفة، وهل لهم أن يرفضوا الانجرار وراءها؟
إن معظم حكام العالم إنما وصلوا إلى رأس الحكم بفعل عمل الاستخبارات الأميركية وبانقلابات هادئة أحياناً أو صارخة في أحيان أخرى، فأوصلت في بلدان عديدة أوروبية إلى سدة الحكم أشخاصاً مثل خوسيه ثاباتيرو في إسبانيا وتوني بلير في بريطانيا وهما أعضاء في منظمة فرسان مالطا ذات النفس الاستعماري التي أحد أكبر أعضائها الأمير فيليب أمير أدنبرة.
للوهلة الأولى يمكن الاعتقاد أنه في كل مرة تشن فيها واشنطن حرباً، تستطيع أن تجر وراءها الحكام الذي صنعتهم، وهو الأمر الشائع لأن كتلة واحدة كالاتحاد الأوروبي، تهيمن على قرارها الاستخبارات الأميركية يمكن الحصول على قرارات تصب في مصلحة واشنطن وحروبها، ويمكن عند التلكؤ باللحاق بمشاريع الحروب الأميركية، ممارسة ضغوط اقتصادية إضافة إلى أن ثمة مواثيق ومعاهدات كثيرة تربط الاتحاد الأوروبي بأميركا ووجود حلف كبير (الناتو) الذي يفرض باسم الدفاع المشترك الانجرار في أي حرب أميركية، ومن النادر أن حاكماً من حكامه شق عصا الطاعة الأميركية أو أن دولة فيه غردت خارجاً وخاصة بعد أحداث أيلول 2001 وبعد التهديد بعبارة (من ليس معنا فهو ضدنا) فقد عارضت فرنسا في عهد جاك شيراك الانجرار وراء بوش الابن في غزوه للعراق، فتلقت فرنسا هجمة إعلامية شرسة ومقاطعة أميركية في جوانب اقتصادية عدة، فرضت في نهاية المطاف خضوع باريس لواشنطن في عام 2005 عندما ساوقتها في إصدار القرار 1559 ضد سورية، والارتماء الكامل في الحضن الأميركي، ومنذ عهد نيكولاس ساركوزي حتى الآن والذي كانت الطائرات المدنية الأميركية في عهده تنقل الإرهابيين مروراً فوق سماء فرنسا لتوزيعهم حول العالم.
وشهدنا كيف امتنعت الدول الغربية عن الانجرار وراء أميركا بعد أن نكثت بالاتفاق النووي مع إيران العام الماضي، لا لشيء سوى لأن المصالح الأوروبية تتضرر كلياً إن هي نقضت الاتفاق مع إيران، بسبب إمدادات النفط الإيراني إلى أوروبا وبسبب مصالح أخرى واستثمارات أوروبية في إيران.
والسؤال الذي يُطرح في هذه الآونة هل من ضمانات لدى واشنطن تكفل لها اصطفافاً أوروبياً خلفها لشن مواجهة مع إيران؟
إبان الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كانت فرنسا من أشد المتحمسين لخوض حرب مباشرة على إيران، وهي التي كانت في أصل التحشيد ضدها، ولكن أميركا وحلفاءها أوجدوا من يخوضها عنهم بالوكالة، وبتمويل خليجي، ولم يقتل جندي غربي واحد في هذه الحرب التي طالت ثماني سنوات استخدمت أميركا خلالها الفيتو أكثر من مرة لمنع إيقافها.
والاحتمال الأكبر أن ينجر الغرب هذه الأيام أكثر فأكثر وراء حروب أميركا إن كان لن يدفع ثمناً بالأرواح أو الأموال، وما عدا ذلك لن تتورط دول أوروبا في أي حرب أميركية قادمة، ولنلحظ بالعودة إلى عقدين ونيف من الزمن أن المشاركة البريطانية في غزو العراق وإحجام فرنسا آنذاك وهما تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، فكيف لا تنجر بريطانيا الآن مباشرة وراء أميركا في أي مواجهة جديدة وهي التي تصفي شراكتها في معاهدة ماستريخت عبر البريكست، علماً أن كثيرين يعتقدون أن بريطانيا هي الموجه للسياسات والحروب الأميركية، كفكرة الأسرة المالكة التي تزعم أنها تملك ولا تحكم ولكن تضع البيادق في واجهة الحكم وفي المواجهات والحروب، وتدفع أميركا بالشراكة مع مجمعات السلاح والنفط والمال الأميركية إلى شن مزيد من الحروب.
ولا شك أن شعوب أوروبا كثيراً ما بدت رافضة للحروب الأميركية ولكن مقصلة الإرهاب التي يقف عليها الجلاد الداعشي المنتمي لتنظيم القاعدة، بأوامر أميركية، وبعملياته الإرهابية التي تضرب بين الفينة والأخرى في أوروبا، تجعل الشعب أو الشعوب الغربية تصدق الأكذوبة الأميركية بمحاربة الإرهاب التي تشن أميركا تحت بندها الحروب تلو الحروب، وفكرة الجيش الأوروبي الموحد التي يبحث فيها زعماء أوروبيون قد تجعل من هذا الجيش إن تشكل جاهزاً لأي قرار بالتحرك كتلة واحدة، وربما قد تستطيع أميركا من خلاله تحريك جيوش أوروبا -تحت عنوان الجيش الموحد- بسلاسة أكبر لخوض حروبها.
والتحشيد الغربي ضد إيران، إذا وجدت فيه أوروبا مصلحة فلن تتردد بالانخراط فيه وخاصة الفرنسيين في ظل خلافات بين الدول الأوروبية تحول دون الإعلان عن آلية للتجارة مع إيران، حيث تسعى هذه الدول للالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على طهران من دون جدوى، وتبدي نية بترميم الاتفاق النووي مع إيران عقب انسحاب واشنطن، والترميم المراد الوصول إليه فيه إن كان فيه خروج عما اتفق عليه عند إبرامه، فهذا شأن إيراني على الأغلب لن تقبل به إيران، وإن لن تقبل فهل تجب المواجهة وفرنسا تعاني اضطرابات داخلية (الستر الصفراء) وأزمة الحرب التجارية الأميركية التي لم تستثن حتى شركاءها وحلفاءها في أوروبا وحلف الأطلسي، إضافة إلى الخلافات الغربية البينية حول مناطق النفوذ في إفريقيا علماً أن التضييق على إيران بالعقوبات الأميركية هو بسبب مناهضتها للكيان الصهيوني الغاصب ولكونها أحد دول محور المقاومة، والتحشيد عليها اليوم هو لمنع إعادة الإعمار في سورية التي هزمت المشروع الأميركي ولإعادة ضرب محور المقاومة ولكن من خاصرة أخرى، حيث يعمل الكونغرس الأميركي بشكل حثيث على عرقلة إعادة الإعمار في سورية، بل يتناغم معه الاتحاد الأوروبي الذي أصدر في 21 من الشهر الجاري قائمة عقوبات ضد أشخاص وشركات سورية تقوم بواحد من مشروعات إعادة الإعمار.
والأغلب في ظل أزمة الهزيمة الغربية في سورية أن أميركا لن تقوم بفتح مواجهة مع إيران إلا عبر وكلاء محليين، لتضيف ثمناً وعبئاً آخر على الشعب الإيراني غير الثمن الذي يتكبده الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات الأميركية ولتبيع السلاح لمن يحارب من الأغبياء بالنيابة عن أميركا، على أن النيات الأميركية تحاول أن تلقى صدى بين الحلفاء ذاتهم الذين دعموا الإرهاب أو الذين خاضوا الحرب على العراق لخلق مواجهة جديدة بعد الانسحاب الأميركي من سورية وهزيمة المخطط الصهيو أميركي، والذي لن يهدأ واضعوه ما دام محور المقاومة يزداد قوة بمواجهة المشاريع الاستعمارية والصهيونية، وهي المواجهة التي ينادي بها وزير الدفاع الأميركي مايك بومبيو من خلال التحشيد ضد إيران بأدوات جديدة وخطط جديدة غير التي بليت وتآكلت خلال العدوان على سورية، وفي هذا إن حدثت المواجهة عدوان جديد ضد كل محور المقاومة
منير الموسى
التاريخ: الجمعة 8-2-2019
الرقم: 16905