في تناغم مشبوه عمد الكيان الصهيوني إلى نهج تغيير في قواعد الاشتباك بدأها منذ بداية الأزمة في سورية عام 2011 وذلك بتصعيده قصف أهداف بذريعة كونها مواقع إيرانية، فتارة نراه يقول إن الهدف منها منع إيران من نقل صواريخ عالية الدقة إلى حزب الله في لبنان عبر سورية، وتارة أخرى يلجأ إلى القول بأن هدفها يرمي إلى تحقيق انسحاب إيراني من سورية. وفي مختلف الأحوال، فإن تلك التصرفات توحي بتهيب إسرائيلي من إيران بما تمثله في محور المقاومة إذ تعتبره العدو اللدود لها. لكن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي تضمن سحب القوات الأميركية من سورية جاء ليزيد من امتعاض رئيس الكيان الصهيوني نتنياهو الذي كان يعول الآمال على التوصل لإقناع إدارة ترامب بتوظيف الوجود العسكري الأميركي لخدمة المصالح الإسرائيلية في المنطقة. وهنا نتساءل إن كانت تصرفات رئيس الحكومة الإسرائيلية الرعناء جزءاً من استراتيجية أوسع تبناها بغية استفزاز طهران للانخراط بعمليات عسكرية والانجرار إلى حرب واسعة أم أن الغاية منها تصدير أزماته المحلية إلى الخارج وصرف الانتباه عما لحقه من فشل ذريع في شتى المجالات؟
يبدو أن ما لحق بحلفاء إسرائيل وعملائها من هزيمة نكراء في سورية قد أوغر صدرها حنقاً وغضباً وزاد من إغراء الخيار العسكري لديها، بخاصة بعدما انتابها من شعور بأن الطوق يشتد على عنقها في ضوء مخاطر تتعرض لها لم يسبق أن شهدتها منذ تأسيسها، وتتجلى تلك المخاطر بمحور المقاومة الذي يمثل عامل ردع لها في ارتكاب أي حماقة قد تؤدي إلى منزلق خطير، حيث نشاهد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد تعهدت بتدمير الكيان الإسرائيلي ما أثار الخوف والتحسب لدى الإسرائيليين وزاد في قلقهم اقتراب إيران يوماً بعد يوم من تحقيق إنجازات تطمح لها. وإزاء ذلك أصبحت القوة العسكرية المتنامية للحرس الثوري الإيراني محور اهتمام وتهيب (تل أبيب). وقد بدا القلق على نحو جلي فيما صرح به الماجور جنرال المتقاعد ياكوف اميدرور (مستشار الأمن القومي لنتنياهو من 2011 إلى 2013) حيث قال لصحيفة وول ستريت جورنال: (لقد نجحت إيران بمساعدة سورية للحفاظ على استقرارها، والآن تغيرت أولوياتها وأصبحت (إسرائيل) الهدف الأساس لها) وأردف قائلاً: (من الضروري وقف طهران ونحن على استعداد لخوض الحرب معها). فيما حذر وزير الحرب الإسرائيلي السابق المتشدد أفغيدور ليبرمان قائلا: (إن السماح لطهران بتعزيز وجودها وتحالفها مع سورية سيكون أشبه بالموافقة على وضع الإيرانيين الخناق حول رقابنا)
ويبدو أن (تل أبيب) ترغب بالدخول في حرب مع طهران، لكنها تتحسب وتخشى خوض غمار هذه المواجهة التي قد تودي بوجودها. إذ يؤكد كبار المحللين العسكريين في الولايات المتحدة وفي بريطانيا أن إسرائيل لا قبل لها بتحمل تبعات هجوم على إيران.
ونستذكر في هذا المقام ما جرى إبان حرب تموز عام 2006 فالحرب التي شنتها إسرائيل على المقاومة اللبنانية وعلى لبنان شكلت ملحمة وطنية نادرة في تاريخ الحروب العربية حيث مرّغ فيها أبطال المقاومة هيبة الجيش الصهيوني، وهزّوا ثقته المفرطة بإمكانياته وقدراته، واخترقوا وهم القوة لديه، ولقنوه درساً لن ينساه، حيث تمكن حزب الله من تحقيق إنجاز عسكري لم تشهد الأمة العربية له مثيلاً منذ حرب تشرين الأول عام 1973 حيث انتصرت سورية على اسرائيل وقامت بتحرير القنيطرة وبعض الأراضي السورية المحتلة فكيف سيكون الحال إذا عمدت إلى شن حرب على إيران؟
في هذا السياق نشر موقع نيوزويك الأميركي دراسة تطرق فيها لنقاط القوة لدى إيران التي تتمثل بامتلاكها لقوات عسكرية هائلة تمكن الجمهورية الإسلامية من التصدي لحرب محتملة مع إسرائيل، فضلاً عن التعداد الكبير لمواطنيها الذي انعكس زيادة في عدد قواتها المسلحة واسطولها البحري القوي حيث يبلغ عدد سكانها نحو 10 أضعاف عدد السكان في كيان الاحتلال ويقدر عداد قواتها بـ 534 ألف شخص يضاف إليهم 400 ألف آخرين من قوات الاحتياط، الأمر الذي يجعل من تلك القوة أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط.
وعرض التقرير أيضاً أن إيران تتفوق على إسرائيل بنحو 10 أضعاف ما يمكن أن تجندهم في حال اندلاع الحرب بين الطرفين. كما بينت الدراسة أنها تتفوق على الكيان الصهيوني من حيث امتلاكها المدافع المقطورة، وعدد المنصات الصاروخية. من جانب آخر، تتفوق القدرات الإيرانية في البحر على ما لدى إسرائيل بشكل ملحوظ، وهذا الأمر ليس من المستغرب نظراً لطول الحدود البحرية للجمهورية الإسلامية. كما تمتلك طهران أكبر ترسانة صاروخية في الشرق الأوسط. وأشار التقرير أيضاً إلى أن الحرب المحتملة بين إيران وإسرائيل ستؤدي إلى التصادم بين جهازي المخابرات (الموساد) و(فيلق القدس)، اللذين سبق أن نفذا عشرات العمليات الخاصة في المنطقة.
وفي مختلف الأحوال، فإن نتنياهو بتصرفاته الحمقاء يحاول الهروب من مشكلاته الداخلية بالإقدام على إشعال فتيل حرب مع إيران بهدف صرف الانتباه عما وصلت إليه سمعته التي تمرغت بالتراب. لذلك نراه يسعى جاهداً إلى توظيف العمليات الإسرائيلية ضد إيران وحزب الله وسورية بغية تحويل الانظار عما يواجهه من ضغوط سياسية كبرى في ضوء صدور توصيات الشرطة بإحالته للمحاكمة وتوجيه تهم له ولزوجته سارة في التورط بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشاوى. يضاف إلى ذلك الوضع الاقتصادي الذي يتدهور يوماً بعد يوم وفقدانه ثقة كيانه الأمر الذي جعله يعيش في حيرة من أمره. وزاد من ارتباكه استقالة عدد من وزراء حكومته على خلفية الهدنة في قطاع غزة ما قاد إلى تصدع العصابة التي يقودها نتنياهو وجعله يتحسب من خسارة موقعه في السلطة نتيجة للانتخابات التي ستعقد في الربيع المقبل. وإزاء هذا الواقع، نجد رئيس الوزراء الإسرائيلي يفصح عما يزمع أن يقوم به من عملية عسكرية ضد إيران كي يبعد الأنظار عن أمور ربما تطيح بحكومته وتقضي على مستقبله السياسي ولا سيما في ضوء المزايدة السياسية والحزبية التي تمارسها القاعدة اليمنية الأكثر تطرفاً.
إن ما أعلنه الرئيس الأميركي من رغبته في انسحاب قواته من سورية لا يمكن الركون إليه لأنه عودنا على النكول عما يقول به، لذلك لا نستبعد البتة أن يتعاون مع نتنياهو للدخول في حرب يرمي منها القضاء على المحور الصلب الذي شكلته المقاومة لكن على (تل أبيب) أن تعلم أن مثل تلك الحرب ستكون وبالاً على كيانها المغتصب لأنها ستودي بها إلى عواقب وخيمة لم يسبق أن ذاقت مثيلاً لها من قبل، يضاف إلى ذلك التداعيات الاقتصادية والعسكرية والمدنية التي ستتعرض لها. لكن، مع ذلك، فإننا نرى بأن إسرائيل لن تتجرأ على إشعال حرب كارثية ستكون هي أكبر المتضررين بها وأكثر من يكتوي بنارها.
ليندا سكوتي
التاريخ: الجمعة 8-2-2019
الرقم: 16905