هل يمكن لأحد أن يحسد العبقرية؟

الملحق الثقافي:

عندما أكتب عن كارل ماركس، كنت أضيف دائماً كلمة «الكبير»، أي «الكبير كارل ماركس»، وهو عقل كبير حقاً في تاريخ الفكر العالمي. إنه العقل الذي زلزل القرن التاسع عشر، وهيمنت أفكاره على القرن العشرين، ويبدو أنها ستسود القرن الواحد والعشرين.
ورغم أن «البيان الشيوعي» هو الكتيب الذي هز عروش أوروبا البرجوازية، إلا أن كتاب «رأس المال» هو الكتاب المرتبط باسم كارل ماركس وكأنه لاحقة لاسمه. ولا يمكن لأي عمل آخر؛ في الاقتصاد السياسي، أن يوازي في قيمته هذا الكتاب الجذاب الساحر والعقلاني.
في هذا الكتاب «رأس المال.. سيرة كتاب» الصادر عن دار فواصل للنشر، يحكي المؤلف فرانسيس وين، قصة صدور هذا الكتاب ومعاناة ماركس الحياتية. كانت حياته مثالاً على تحكم رأس المال وتوحش البرجوازية الأوروبية وتحويلها الناس إلى تروس في آلاتها الصناعية الضخمة.
تبدأ حياة ماركس في ترير ضمن الإمبراطورية البروسية، وكان والده محامياً، تعرف من خلاله على البارون لودفيغ فون ويستفالن المثقف الليبرالي الذي عرّف ماركس على هوميروس وشكسبير ودانتي، وعلى ابنته جيني التي تزوجها ماركس لاحقاً. وبسبب قراءاته الأدبية، كتب ماركس ديوان شعر وهو ما يزال طالباً في كلية الحقوق، ومن ثم كتب مسرحية شعرية ورواية. وأقر هو نفسه بأن ما يكتبه لا معنى له «فجأة ، كأنما بلمسة سحرية – بل كانت اللمسة في البداية ضربة ساحقة – وقع بصري على عالم الشعر الحقيقي النائي مثل أرض الجن النائية، وتقوضت إبداعاتي جميعاً وتلاشت». ويصاب ماركس بنوع من الاكتئاب، أخرجه منه صوت فريدريك هيغل المغوي، الذي كان إرثه موضع خلاف بين أقران ماركس والمحاضرين الجامعيين.
تنوعت قراءات ماركس، وكذلك فإنه تعلم الإنكليزية والإيطالية، ودرس تاريخ الفن وترجم كتاب أرسطو «الخطابة» وكتاب تاسيتوس «جرمانيا» وقرأ فرنسيس بيكون، وفكر في أن يصبح محاضراً في الفلسفة، ثم وجد أن قربه من الأساتذة أمر لا يطاق «من الذي يريد أن يتكلم طوال الوقت مع سفلة مثقفين، مع أناس لا يدرسون إلا لكي يجدوا مآزق جديدة في كل زاوية من زوايا الدنيا!».
في الرابعة والعشرين من عمره بدأ ماركس يكتب لصحيفة ليبرالية في كولون، ثم عين محرراً فيها. اتسمت كتاباته بالتهور والجرأة، ولم يتوان في الهجوم العنيف على الحكم البروسي وعلى خصومه الليبراليين، ومن ثم على رفاقه والهيغليين الشباب ووصفهم بالأوغاد. وبسبب جرأته طلب قيصر روسيا شخصياً من ملك بروسيا أن يوقف الجريدة الرينانية التي نشر فيها ماركس مقالات ضد قيصر روسيا. وأغلقت الجريدة. انتقل إلى باريس كمحرر مساعد لمجلة يصدرها الألمان في المنفى، هي «الحوليات الألمانية الفرنسية»، ولكنها كانت تجربة قصيرة الأمد، إذ صدر منها عدد واحد. وتلقى عرضاً في صحيفة «إلى الأمام» وهي صحيفة يصدرها منفيون ألمان.
بدأ قراءة الاقتصاد الإنكليزي والفلسفة الألمانية والسياسة الفرنسية، وكتب تعليقات سميت «مخطوطات باريس»، وفيها يشرح ماركس الصراع الضاري بين الرأسمالي والعامل، ويربح الرأسمالي الصراع حتماً، ويكون مصير العامل، حتى في أفضل الشروط الاقتصادية، هو الموت المبكر، واختزاله إلى آلة وعبد لرأس المال.
يزور فريدريك إنجلس ماركس في شقته الباريسية، وكان ماركس معجباً بمقالة إنجلس «نقد الاقتصاد السياسي» التي قدمها إلى مجلة الحوليات الألمانية الفرنسية. وكان إنجلس الابن والوريث الألماني يعمل في صناعة الأقطان ويملك محالج في مانشيستر: قلب الثورة الصناعية مسقط رأس الرابطة المناهضة لقانون الجنوب. وهو ما جعله على تواصل حميم مع الطبقة البرجوازية ومع البروليتاريا في الوقت نفسه. ومع أن إنجلس يتمتع بامتيازات الثروة الواضحة والعمق الفكري، إلا أنه كتب عن ماركس قائلاً: «لا يسعني أن أفهم كيف يمكن لأحد أن يحسد العبقرية، فهي شيء بالغ الخصوصية إلى درجة أننا نعلم منذ البداية، نحن الذين لا نمتلكها، أنه من المتعذر إحرازها، أما من يحسد شيئاً كهذا، فلا بد أن يكون ضيق التفكير إلى حد مخيف».
عبقرية ماركس جعلت إنجلس يقوم بدور أم بديلة ويرسل إليه مصروف جيبه، ويهتم بصحته ويحفزه على دراساته التي يراها مهمة وعلى قدر كبير من التأثير في الاقتصاد، ومن ثم فإنه يطلب منه أن ينهيها ويرسلها إلى المطبعة في أسرع وقت. ولكن ماركس غير الراضي عما يكتب، يؤجل نشر الجزء الأول من «رأس المال» عشرين عاماً.
البيان
في عام 1845 احتج مبعوث بروسيا في باريس أمام الملك لوي فيليب على مقالة نشرها ماركس في «إلى الأمام» وقد سخر فيها ماركس من الملك فريدريك ولهلم الرابع. وهكذا فقد أغلقت المجلة وطرد ماركس من فرنسا. ولم تكن أمام ماركس سوى دولة وحيدة تقبل دخوله إليها، هي بلجيكا، بعد أن تلقى ملكها ليوبولد الأول تعهداً مكتوباً من ماركس بألا ينشر أي عمل عن السياسة الراهنة. وما كان من ماركس إلا أن دعا إنجلس إلى بروكسل، وأسس «لجنة المراسلات الشيوعية» وباتت هذه اللجنة فرعاً من عصبة الشيوعيين المشكلة في لندن والتي دعت ماركس إلى إعلان مبادئها. وقدم ماركس لهذه العصبة «البيان الشيوعي» الذي أصبح أكثر الكراسات قراءة وأشدها تأثيراً على مر التاريخ.
نُشر البيان الشيوعي عام 1848، وبعد أسبوع اندلعت الثورة في باريس وانتشرت في أنحاء أوروبا كلها. تنازل الملك لوي فيليب عن العرش، وأعلنت الجمهورية الفرنسية. أخطرت الحكومة البلجيكية كارل ماركس بمغادرة البلاد خلال أربع وعشرين ساعة وألا يعود إليها. لقد ارتعدت بلجيكا وأوروبا من ماركس، وأصبح شخصاً خطيراً للغاية. ولكن باريس تدعوه ثانية عبر حكومتها المؤقتة للعودة إليها «ماركس الطيب والمخلص.. لقد نفاك الطغيان، وها هي فرنسا الحرة تفتح بواباتها لك ولجميع أولئك الذين يقاتلون من أجل القضية المقدسة، قضية إخاء جميع الشعوب». عاد إلى باريس، ومن ثم ذهب إلى كولون لنشر الثورة. وهناك أسس جريدة «الجريدة الرينانية الجديدة» التي تمت مضايقتها وإغلاقها. ومثُل ماركس أمام القضاء بتهمة سب وقذف النائب العام. ومن ثم اتهم بالتحريض على التمرد، وطلب منه مغادرة البلاد. وبعد عودته إلى باريس عام 1849 وجدها في قبضة الملكية من جديد ووجداً أمراً رسمياً يقضي بإبعاده إلى منطقة بوربيهان، فسافر إلى بريطانيا حيث كانت البلد الوحيد المستعد لإيواء الثوريين، وبقي فيها حتى وفاته.
آلام
ضغط الوضع الاقتصادي على ماركس بشكل خانق، حتى أنه لم يستطع تسديد إيجار الشقة في تشيلسي، فطرد منها مع عائلته المكونة من زوجته جيني وأربعة أولاد. وجد ماركس مأوى لعائلته في دن ستريت في سوهو، ثم انتقلوا إلى بيت أبعد. وحاول إنجلس أن يقدم لصديقه ما يستطيع لإنقاذه من العوز. إلا أن وضع ماركس والعائلة بقي مزرياً وأقرب إلى اليأس. البيت بائس والأثاث محطم وممزق وبال. كان الجميع مع المدبرة ينامون في غرفة واحدة. وقد كتب أحد جواسيس الشرطة البروسية بعد أن دخل شقة ماركس: «يعيش حياة مثقف بوهيمي حقيقي، مع أنه غالباً ما يتكاسل لأيام، فإنه يعمل مواصلاً الليل بالنهار من دون كلل أو ملل عندما يكون لديه قدر كبير من العمل الذي ينبغي إنجازه. غالباً ما يسهر الليل كله، ثم يرقد بكامل ثيابه على أريكة عند منتصف النهار وينام حتى العشاء من دون أن تزعجه جلبة الدنيا بأكملها».
مات الابن الأصغر لماركس، غيدو، عام 1850، وماتت ابنته ذات العام الواحد، فرانسيسكا، بسبب التهاب القصبات، أما إدغار فقد مات بالسل.
لقد قتل الفقر أولاده، لقد قتل رأس المال أولاده. ويلاحقه الدائنون لدرجة أنه حبس نفسه في البيت وهو يقول عن ذلك: «منذ أسبوع وصلت إلى ذلك الحد الطريف الذي عجزت عنده عن الخروج بعد أن رهنت معاطفي» ويقول لإنجلس: «خلال الثمانية أو العشرة أيام الماضية لم أكن أطعم الأسرة سوى الخبز والبطاطا، لكنه بات من المشكوك فيه اليوم أن أتمكن من الحصول على أي منهما. كيف لي أن أخرج من هذه الورطة الجهنمية؟».
هذا الرجل العبقري الذي يفهم اقتصاد العالم وحركة رأس المال، لم يكن باستطاعته تأمين قوت أسرته، ولم يتمكن من إنجاز رائعته «رأس المال» التي غيرت تاريخ العالم. وهو يقول عن هذا: «لا أحسب أن أحداً قط كتب عن النقود وجيوبه فارغة إلى هذا الحد».
رأس المال
في نهاية عام 1865 كان رأس المال مخطوطة في 1200 صفحة ولكنها مليئة بالتشطيبات والخربشات. وجلس في بداية عام 1866 كي ينجز نسخة نظيفة. واستغرق الأمر سنة وبضع السنة. ومع انتهاء تنقيح كتابه اختفت أمراض ماركس –الدمامل واضطراب الكبد – وشعر ماركس كما يقول بأنه «سليم معافى مثل 500 خنزير»، وفي نيسان 1867 سلم ماركس المجلد الأول من رأس المال للناشر، وكان هذا المجلد هو المجلد الوحيد الذي أكمله قبل وفاته، رغم أنه وعد بأن يسلم باقي المجلدات، ولكنه لم يفعل.
توفي ماركس عام 1883، وظهر المجلد الثاني الذي جمعه إنجلس عام 1885 وتلاه المجلد الثالث عام 1894 على يد إنجلس أيضاً، وحقق كاوتسكي المجلد الرابع عام 1905.
بعد مائة عام على وفاة ماركس كانت الدول الشيوعية تبجل أعماله، أما الدول البرجوازية والمناهضة للشيوعية، فكانت تصفه بوكيل الشيطان. ولكن الزمن أثبت عكس ما اتهم به. ففي عام 1997 قال مستثمر بريطاني في نيويورك «كلما طال بي الوقت في وول ستريت، كنت أزداد اقتناعاً بأن ماركس على حق. ولدي قناعة مطلقة بأن مقاربة ماركس هي الطريقة الأفضل في النظر إلى الرأسمالية»، وقد وجد هذا المستثمر عند ماركس مقاطع لا فتة عن العولمة وانعدام المساواة والفساد السياسي والاحتكار والتقدم التقني وانحلال الثقافة الرفيعة.
ماركس راسخ في التفكير الغربي، وهم مدينون له في طريقة تفكيرهم، وها هم الآن، بعد ما يقارب المائة وأربعين عاماً على وفاته، يرون الوحش البرجوازي ينهش العالم ويقضي على السعادة والحرية الإنسانية.
الكتاب: رأس المال.. سيرة كتاب
الكاتب: فرانسيس وين
المترجم: ثائر ديب
الناشر: دار فواصل للنشر، اللاذقية

التاريخ: الاثنين26-2-2019

رقم العدد : 16918

آخر الأخبار
مخبز بلدة السهوة.. أعطاله متكررة والخبز السياحي يرهق الأهالي عودة الحركة السياحية إلى بصرى الشام خبير اقتصادي لـ"الثورة": "الذهنية العائلية" و"عدم التكافؤ" تواجه الشركات المساهمة اشتباكات حدودية وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان الرئيس الشرع يلتقي وزير الزراعة الشيباني أمام مجلس الأمن: رفع العقوبات يسهم بتحويل سوريا إلى شريك قوي في السلام والازدهار والاقتصاد ... "الصحة العالمية" تدعم القطاع الصحي في طرطوس طرطوس.. نشاط فني توعوي لمركز الميناء الصحي  صناعتنا المهاجرة خسارة كبيرة.. هل تعود الأدمغة والخبرات؟ ترجيحات بزيادة الإمدادات.. وأسعار النفط العالمية تتجه لتسجيل خسارة تركيا: الاتفاق على إنشاء مركز عمليات مشترك مع سوريا "موزاييك الصحي المجتمعي" يقدم خدماته في جبلة تأهيل طريق جاسم - دير العدس "بسمة وطن" يدعم أطفال جلين المصابين بالسرطان اللاذقية: اجتماع لمواجهة قطع الأشجار الحراجية بجبل التركمان درعا.. ضبط 10 مخابز مخالفة تربية طرطوس تبحث التعليمات الخاصة بامتحانات دورة ٢٠٢٥ مُنتَج طبي اقتصادي يبحث عن اعتراف سوريا أمام استثمارات واعدة.. هل تتاح الفرص الحقيقية للمستثمرين؟ دعم أوروبي لخطة ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا