الملحق الثقافي_ د. ثائر زين الدين:
«.. كان باستطاعة زواره وعائديه أن يروا صراعه مع الموت رأي العين؛ صراع بين متكافئين، الموت والشعر. وفي اللحظة التي وقع فيها الجسد بكامله بين مخالب الوحش خرج أمل دنقل من الصراع منتصراً.. لقد أصبح صوتاً محضاً، صوتاً عظيماً سوف يترددُ أصفى وأنقى من أي وقتٍ مضى».. أحمد عبد المعطي حجازي
أشتهي أن ألاقي اثنتين: الحقيقة والأوجه الغائبةْ!
مدخـل:
أن تكتب عن أمل دنقل يعني أن تكتب عن شاعِرٍ بدأ النشر أواخر الخمسينات، واستمر بالكتابة حتى فترة قصيرة قبل وفاتهِ يوم 21 أيار 1983، بكل ما يمثله هذا العمر الإبداعي القصير نسبياً من إنجازاتٍ خلابة.
عن شاعرٍ ينتمي إلى الجيل الثاني بعد جيل الرواد، دون أن يجعله هذا الانتماء راضخاً لكثير من القيم الشعريّة التي رسّخها ذلك الجيل جمالياً ومعنويّاً، ذلك أنّه ظلّ مسكوناً بهدف التجاوز والمغايرة والتميّز دون أي سعي لاهثٍ للشهرة أو النجوميّة الهزيلة، التي تأتي من خارج النص الإبداعي، والتي تأخذ من الشاعر فوق ما تقدّم له بكثير. وحتى على الصعيد الفكري والثقافي فقد كان أمل دنقل يُصرّحُ كثيراً رغم حبّه لصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي أنّه لا ينتمي فكرياً وثقافياً إلى جيلهما «فجيلهما هو جيل الانتصارات، الانتصار على المستوى الوطني والقومي، بينما كان أمل ينتمي إلى جيل الهزائم، الجيل الذي بدأ احتكاكه الفعلي مع الواقع بمشاهدة المفكرّين والمثقفين والشعراء في المعتقلات عام 1959م وبداية انهيار المدّ الوطني في ذلك الوقت بالانفصال المصري السوري 1961، كما أن جيل صلاح وحجازي هو جيل الشعارات التي لم تطبّق فهو جيل نما مع الاشتراكية التي لم تكن قد طبّقت في ذلك الوقت- جيل العداء للاستعمار بشكله التقليدي، لكن جيل أمل نشأ وقد بدأت الاشتراكية العربية تطبق، وبدأت آثارها السلبية تظهر في المجتمع، إنه جيل الاشتراكية دون اشتراكيين»(1) الكتابة عن دنقل تعني الكتابة عن إبداعيّة حققت فرادتها وتميزها، ضمن مرحلة تاريخيّة صعبةٍ انتمت إليها، فخرجت نصوصها من أعماقها واستطاعت كشفها وإضاءتها بصورةٍ فنيةٍ، ومع أن صاحب هذهِ التجربة كان يقول: «أعتقد أنني أنتمي إلى المدرسة التي ينتمي إليها أحمد عبد المعطي حجازي، وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وممدوح عدوان وأحمد دحبور، وكل الذين يعتبرون الشعر سلاحاً، وليس تهدّجاً صوتياً في الإذاعات الرسميّة والصالونات الخاصة»(2). وكانت تطلق عليه من الأصدقاء والنقاد ألقابٌ من قبيل «سبارتاكوس»(3)، «شاعر على خطوط النار»(4)، «عازفٌ على أوتار الغضب»(5) «شاعر الرؤية الموجعة»(6)، «أمير شعراء الرفض»(7)، «هرقل»(8).
مع كل هذا الذي يوحي أن الشاعرَ غَلّب الوظيفة الاجتماعيّة والسياسيّة للشعر على سواها، فإن أمل دنقل لم يتخلَّ ولو لثانية واحدة عن الوظيفة الجماليّة للشعر، وحتى إذا ما أكد على دور الشعر في الحياة الاجتماعية والسياسيّة فإنه كان يربط ذلك بالنجاح الفني للنص قبل كل شيء؛ قال ذات يوم:» إن الاتجاه السياسي الذي تفصح عنه قصيدة ما لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا إذا كان اتجاهها الفني صحيحاً»(9) ، وقد ساعَدَهُ على ذلك امتلاكهُ «زاداً معرفياً هاماً، وثقافة نقديّة كان لها الأثر العميق في تطوير تجربتهِ الشعريّة. ينضاف إلى ذلك إحساسه بالتراث وطرق التعامل معه وفق صيغٍ فنيةٍ معاصرة، ووعيهُ السياسي الحاد»(10). بل أستطيع أن أقول إن أمل دنقل واحدٌ من قلةٍ من شعراء العربية الحديثين الذين استطاعوا تحقيق معادلةٍ أشبه بمعادلات الرياضيات والفيزياء من حيثُ دقتها؛ معادلةٌ تقومُ على القبضِ على ناصيتي العمليّة الإبداعية؛ جماليات الكتابة الفنية الراقية، والمحمولاتُ المضمونية والمعنوية الخارجة من أعماق تجارب الناس وتجارب الشاعر، فإذا بكلِ ذلك يصلُ إلى المتلقي أياً كانَ مستواه المعرفي، ويتكشّفُ لهُ على درجاتٍ ومراحل وفقاً لسويتهِ الثقافية.
أنتجَ أمل دنقل ست مجموعاتٍ شعريّة هي:
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة (1969).
تعليقٌ على ما حدث (1971).
مقتل القمر (1974) .
العهد الآتي (1975) .
أقوال جديدة عن حرب البسوس (1981).
أوراق الغرفة 8 (1983).
وقد صدرت هذهِ الأعمال فيما بعد ضمن مجلدٍ حمل عنوان: «الأعمال الكاملة» عن دار العودة في بيروت.
لقد تمكن أمل دنقل في معظم ما ضمتهُ مجموعاته المذكورة، وفي سلوكهِ الشخصي الحاد، ولكن الصادق مع نفسهِ أولاً، ومن ثم مع الآخرين، أن يشد إليه اهتمامَ القراء والدارسين؛ ربما لأن تلك النصوص جاءت من رحم معاناة الناس مرتبطةً بهمومهم الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانية، ومرافقةً لمعظم الأحداث السياسيّة التي عرفتها مصر، والأحداث القوميّة في الوطن العربي بصورةٍ عامةٍ، وكانت قادرة على الوصول إلى الناس، ولمسِ مشاعرهم ووجداناتهم، لأن الشاعرَ كما يبدو للجميع كان حريصاً على توصيل نتاجهِ للجمهور، رافضاً الغموض الشديد والتعمية والإبهام، وقد صرح بذلك أكثرَ من مرة: «أنا أرفض الغموض الذي يرادُ بهِ مداراة الموقف الاجتماعي للشاعرِ والتحايل عليه، فكثيرٌ من الشعراء ليس لهم قضية، لكنّهم حتى يتلافوا النقد الذي يوجّه إليهم فإنهم يلجؤون إلى التعميةِ حتى ينشغل الذهن بمحاولة تتبع دهاليز صورهم عن إدراك الكنه النبيل في القصيدة، ويمكنني تسميةُ هذا النوع بالانتهازية الشعريّة»(11).
وفي هذا السياق تحدثنا عبلة الرويني(12) أن أمل دنقل وفي ظروف السبعينيات حَدّدَ دورَهُ وملامح تجربته الجديدة في إعادة اكتشاف الجمال، وتوجيه الناس إليه؛ حيث رأى أن على الشاعِرِ أن ينهضَ بمسؤوليتينِ أو دورين في آنٍ واحدٍ؛ دور فني بأن يكون شاعراً، ودور وطني بأن يوظف فنهّ لخدمة القضية الوطنيّة، وخدمة التقدم، لا عن طريق الشعارات السياسيّة والصراخ والصياح، وإنّما من خلال إعادة اكتشافِ وكشف تراث هذهِ الأمة. وإيقاظ إحساسها بالانتماء، وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها. وقد رأى دنقل «أن على الشاعر أن يلعب دور الشاعر والمفكر أيضاً، وأن يستنهض كل الذين يرون مهمة الشاعر مهمة مثالية هي كتابة الشعر فقط، فالشاعر لكي يكتب ويكون شاعراً حراً، يجب أن يكتب انعكاسات وجدانه – ولا يمكن لإنسان أن يعيش في ظل الظروف التي نعيش فيها وظروف التدخّل الثقافي، التي لدينا بأن يكتفي بمجرد الإحساس بالجمال المطلق، فلا بد أن يعيد اكتشاف الجمال الموجود في الواقع الذي يراه، والذي يعيشه»(13). خلال حياة هذا الشاعر الذي لا يحب المنطقة الوسط ولا يقبل الانتماء إلى البقع الرمادية، ويمقتُ الحلول الوسط، والانفعالات الوسط، سيتعرض لمحاولات تهميش واضحة من قبل المؤسسات الرسمية المختلفة ووسائل إعلامها المسموعة والمرئية والمقروءة وكذلك من الجهات الأصولية بوصفه شاعراً يسارياً، فعندما نشرت مجلة سنابل التي أصدرها الشاعر عفيفي مطر في محافظة كفر الشيخ قصيدة أمل «الكعكة الحجرية»، وكانت منذ كتابتها 1972 قد أصبحت إعلاناً للحركة الطلابية:
«أيها الواقفون على حافة المذبحةْ
أشهروا الأسلحة ْ
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحةْ»(14).
قامت الجهات الرسمية بإغلاق المجلة، وسأل مكتبُ وزير الإعلام رئيسَ الإذاعة: من هو أمل دنقل، وبدوره سأل الرجل مدير البرنامج الثاني لديه: من هو أمل دنقل؟ فرد عليه: «إنه شاعر ممتاز، ونحن نذيع أشعاره»، رد رئيس الإذاعة غاضباً: «لا تردد ذلك ثانية»(15). وهناك جرائد وصحف كثيرة لم تكن تقبل أن تنشر شيئاً لأمل دنقل، شعراً أو حوارات، يقول أحد المحررين السياسيين في جريدة أخبار اليوم لعبلة الرويني حين أعلنت عن نيتها إجراء حوار مع دنقل:
«ستجدين صعوبة في نشر اللقاء، فأمل شاعر يساري، لن تسمح الجريدة بنشر حوار معه لكن ربما يمكنهم نشره في طبعة أخبار اليوم العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربياً، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر»(16).
عن هذا الشاعر، بالتحديد وبعد موته، ستنشر عشرات المقالات والدراسات في مصر وخارجها، صحيح أن للكثير منها طابعاً مهرجانياً تأبينياً، تطغى عليه الملامسة السريعة والخارجية لإبداع الرجل، لكن مع ذلك هناك الكثير من البحوث الجادة التي كتبت عنه، بدءاً من تلك التي حملت طابع التوثيق وتناولت سيرة حياة الرجل وعلى رأسها كتابا حسن الغرفي «أمل دنقل: عن التجربة والموقف» وعبلة الرويني زوج الشاعر «الجنوبي: أمل دنقل»، مروراً بدراسات مهمة لكل من د.صلاح فضل وحازم شحاته واعتدال عثمان وحلمي سالم وغيرهم، وصولاً إلى كتب غنيّة عن الشاعر منها على سبيل المثال لا الحصر: «البنيات الدالة في شعر أمل دنقل» لعبد السلام المساوي، و»التراث الإنساني في شعر أمل دنقل» لجابر قمحيّة، و»في البحث عن لؤلؤة المستحيل: دراسة لقصيدة أمل دنقل: مقابلة خاصة مع ابن نوح» لسيد البحراوي .
2- عن أمل دنقل الإنسان
هناك شخصياتٌ من الصعوبةِ بمكان أن ترسمَ لها «بورتريه» واضحاً، كما هي الحال مع شخصيّةِ أمل دنقل، التي أسهمت في بنائها عوامل عديدة: الفقر الشديد؛ فهو إنسانٌ بلا مأوى، إنهُ يتنقلُ من غرفةٍ إلى غرفة وقد تكونُ معظمها غرفٌ للأصدقاء، يتقاسمها معهم، بل يقاسمهم كلَّ شيء الرغيف والسرير والسجائر، وحتى القميص الذي يستر الجسد، كما حدث حين كان وصديقه الشاعر حسن توفيق يتبادلان ارتداء قميص واحد؛ فإن خرج أحدهما انتظره الثاني في تلك الشقة البائسة في ميدان العجوزة حتى يعود:
«كان يسكنُ قلبي
وأسكنُ غرفتهُ
نتقاسمُ نصفَ السرير،
ونصفَ الرغيفِ
ونصفَ اللفافةِ
والكتبَ المستعارة»(17).
فإذا ما تزوجَ، أصبحَ ينتقلُ من شقةٍ مفروشة إلى غرفةٍ في فندق، إلى غرفةٍ في مستشفى، إلى غرفةٍ في معهد السرطان للعلاج!
لقد كان فقرُ الشاعر مدقعاً بحيث دفعهُ – على عزةِ نفسهِ وكبريائهِ- إلى الاستدانة (التسجيل على الحساب) لشراء كوب شاي أو فنجان قهوة.
تصفُ عبلة الرويني بعضاً من هذا: «..كنتُ منذُ البداية أمتلكُ قلباً مستعداً لأن يبيعَ العالم كلهُ من أجلِ هذا الشاعر، الذي لا يملكُ إلا بنطلوناً واحداً أسودَ ممزقاً، كان هذا الثقب الناتج عن احتراق سيجارة يطلُ من فوقِ الركبة، وكان أمل يحاولُ مداراتهُ دائماً عن عيون البرجوازية، بينما كنتُ أبحثُ عنه، وأنا أكادُ أعتذرُ من ملابسي الأنيقة»(18).
من هذهِ العوامل أيضاً إحساسهُ بالفقد باكراً؛ لقد كان صدامهُ الأوّل مع الموت وهو في الرابعة، عندما توفيتْ أختهُ 1947، ثمَّ جاء الصدام الثاني الأقسى عندما توفي أبوه 1950، فعانى اليتمَ والألمَ والمرارة والظلم وضياع إرث أبيه صغيراً. لذلك كان عليهِ أن يصبحَ رجلاً وهو بعدُ طفلاً في العاشرة، تقولُ عبلة إن أمل لم يعرف كيفَ يلعب مع الأطفال في شوارع القرية، وظل أعواماً طويلة يرفضُ تناولَ الحلوى لأنها في نظرهِ تتعارضُ معَ الرجولة، كما أنهُ ظلَّ يرفض دخول دور السينما، حتى بلغَ الرابعة عشرة، لأن ذلك لا يليقُ بهِ كشابٍ جاد، فإذا ما حضّر فيلمهُ الأوّل فهو فيلمٌ عن «مصطفى كامل»(19).
ولعلَ من تلك العواملِ أيضاً ما يتعلقُ بنشأتهِ؛ فقد كانَ في صباه المبكر متديناً بتأثيرِ والدهِ وهو أحد علماء الأزهر، بل كانَ من النشطاءِ دينياً ومن الخطباء في المساجد، ثم ترك كل ذلك متأثراً بالفكر الماركسي ومن ثم الوجودي.. ولعل قلقاً ميتافيزيقياً كبيراً ظل يسكنه.. قلقاً جعله يرفض يقينية الأفكار والأيديولوجيات، ويبحث بصورة دائمة عن الحقيقة والاطمئنان؛ وأي اطمئنان للقلب البشري في هذه الدنيا:
«ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟»(20).
ثم إن أمل دنقل كان صعيدياً حتى النخاع.. شديد العناد، نقياً وصافياً، صريحاً وحاداً في تصرفاته، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالإبداع، فقد كان «قادراً على إنزال صوت شعري من فوق المنصة، لأنه يقدم شعراً رديئاً، ولقد اعتبر ذلك قمة الرقي الإنساني حين يمارس صدقه، ويحترم أغلى قيمة.. فالشعر لدى أمل لم يكن يحتمل أنصاف الموهوبين، ولا يسكن المنطقة الوسط»(21).
تقول عبلة في وصفه، وهي التي أحبته وعاشت معه حتى وفاته: «..إنه الشيء ونقيضه في لحظة نفسية واحدة، يصعب الإمساك بها والعثور عليه فيها: فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبيّة شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبداً. يملأ الأماكن ضجيجاً وصخباً وسخريةً وضحكاً.. صامتٌ إلى حد الشرود، يفكر مرتين وثلاثاً في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزناً لا ينتهي.. بسيط بساطة طبيعية، يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، وربما يحتد على مديحك خوفاً من اكتشاف منطق الخجل فيه، صخري، لا يخشى شيئاً.. ولا يعرف الخوف.. لكن من السهل إيلام قلبه»(22).
هل اكتمل «البورتريه» الذي نحاول رسمه للرجل؟! لا، ما زال أمامنا ملامح قليلة لابد من رصدها.
لقد كان الشعر في حياته يشكل العامل الأهم في منحه توازناً مستقراً وفق تعبير الفيزيائيين؛ كان الشعر بديل الانتحار في عالم مرعب، وقد أدرك أمل ذلك جيداً. إن الشعر هو مصدر قوته الحقيقية، ولهذا لن يتخلى الشاعر عن كتابته حتى في أشد حالات المرض قسوة على جسده، وها هي قصائد «الغرفة رقم8» تشهد على ذلك: (زهور- ضد من – الجنوبي – الخيول – السرير – لعبة النهاية)، والغرفة رقم 8 هي تلك الغرفة التي عاش فيها مع مرافقتهِ (عبلة) في معهد علاج السرطان. لقد كان الأمر المهمُ في حياته هو الكتابة وليس البحث عن بطولاتٍ دونكشوتية زائفة وهزيلة، كان يرى أن الشعر هو شرفه الحقيقي، وطريقهُ الوحيد إلى النضال ضد كلِ الظلام من حولهِ هو القصيدة ولا شيء سواها.
بحثَ الشاعرُ – ربما كالكثيرين منا – عن الاطمئنان الكامل، وتجلى ذلك فيما تجلى في علاقاتهِ مع الناس، ومع الأصدقاءِ بالتحديد؛ كان يخشى الطعنات لكثرةِ ما تلقاها، ولهذا فقد اتسمت صداقاتهُ بمسافات أمان في لحظات الثقةِ بالآخر، مسافات تمكّنُهُ من صفاء الرؤيا، وتمنعهُ من الالتصاق العاطفي الشديد بشخصٍ ما، لم يكن يبحثُ عن سندٍ خارج نفسهُ فقد أكسبتهُ الحياةُ دروساً حول «السفن الغارقة التي لا بد وأن يفرَ منها الآخرون»، كما كان يردد، وبالتالي فالضعيفُ لا أصدقاءَ له، القوي هو من يتحلّق الأصدقاء من حولهِ! ومع ذلك فقد كانت هناك صداقات مركبة بشكلٍ غريب في حياته، بعضها اتسم بأقنعةِ الحدة، والمنازلات الملتهبة، والمداعبات العنيفة، والمشاحنات الكلامية، من تلك الصداقات ما ربطهُ مع القاص يحيى الطاهر عبد الله، فقد وحّدَ الرجلين إخلاصُهما الشديد لإبداعهما مع كل ما انتاب تلك العلاقة من منغّصات، وقد توفي يحيى قبل أمل جراء حادث سيارة، بعد عامٍ واحد من زيارته أملَ في مستشفى العجوزة، وقد أُجريت له العملية الجراحية الأولى 1979، لم يستطع أمل أن يكتب شيئاً عن يحيى، إلا قبل وفاتهِ، في الغرفة رقم 8، عندما حضر هذا الصديق المشاكسُ مرتين في نص أمل «وجه»:
«ليتَ أسماءَ تعرفُ أن أباها صعدْ
لم يمتْ
هل يموتُ الذي كان يحيا
كأن الحياةَ أبدْ
وكأن الشراب نفدْ
وكأنَ البناتِ الجميلاتِ يمشينَ فوقَ الزبدْ!
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحثُ عما فقدْ»(23).
ونص «مرآة» حين كان وجه يحيى هو أحد تلك الوجوه الغائبة التي تمنى الشاعر أن يلتقيها، وكان ذلك بمثابةِ إعلانٍ لرحيلِ أمل:
«فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكونَ الذي لم يكنهْ
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة – والأوجه الغائبة ْ»(24).
وقد ربطت الشاعرَ علاقاتٌ من نوعٍ آخر مع كلٍ من نجيب سرور ود. جابر عصفور، ود. يوسف إدريس، ود. سهيل إدريس، ويوسف السباعي وكانَ يحبُ لأصدقائه (ومنهم) ما يحبُ لنفسهِ، كان يكره لهم لحظات الضعف مهما كانت، وكانت أسبابها. تذكرُ عبلة أن أمل كان ذات يوم يقرأُ رسالة يوسف إدريس (أتظلمُ منك إليك) الموجهةُ إلى رئيس جمهورية مصر منشورة في جريدة الأحرار إثر الهجوم الحاد الذي تعرض له، فأغضبت أملَ نبرةُ الشكوى في أسلوب الرسالة، ومضى يعدل أسلوبها وجملها بقلم أحمر.. لكنه عاد ومزقها صارخاً: إن يوسف إدريس يجب أن يعلم إنهُ أقوى من رئيس الجمهورية؛ وعليهِ أن يكتب بهذا الإحساس، ثم طلب من عبلة أن تتصل بيوسف وتبلغه بوقوف أمل معه ومساندتهُ النفسية له»(25).
الملمح الذي سيكون ضربة الريشة الأخيرة في «بورتريه» أمل هو عزة النفس، التي لازمتهُ حتى الموت! ومنعته من أن يطلب مساعدةَ أحد في علاجه.
تروي عبلة أن مطالبة د. يوسف إدريس بعلاج أمل على نفقةِ الدولة جاءت بعد أن قضتْ وزوجها شهرين في معهد السرطان، أنفقا خلالهما كل ما يملكان (3500 جنيه)، وقد طلب بعض الأدباء من رئيس اتحاد الكتاب (ثروة أباظة) أن يساعدَ الاتحادُ في علاج أحدِ أعضائه، فوافق الرئيس على صرف (100 جنيه) مشاركةً من الاتحاد على أن يتقدم أمل بالتماس!! وبالطبع لم يقدم أحدٌ التماساً، بل لم يعلق أمل على ما حدث»(26).
بعد ذلك صدر قرار وزير شؤون مجلس الوزراء بعلاج (المواطن أمل دنقل) على نفقةِ الدولة بالدرجة الثانية، من دون مرافق بنفقات (1000 جنيه) فرأى أمل أن القرار ليس أكثر من تهريج ورفضهُ، ثم رفض بعد ذلك تعديله إلى (3000 جنيه)، وظل يشعر بالانزعاج والاستياء طويلاً من مكاتبة شؤون مجلس الوزراء إليهِ (بالمواطن أمل دنقل نزيل معهد الأورام)، وسيرفض أمل مساعدةَ بعضهم، ممن زعموا أنهم أصدقاء!
يكشف يوسف إدريس في مقالته: كيفية التعامل مع شعرائنا في زمن النثر الرديء، أن ثلاثة أشهر كاملة مرت دون أن يتذكر وزير الثقافة أن أكبر شاعر في مصر مريض في معهد السرطان؛ فيرسل الوزير باقة وردٍ كبيرة وخطاباً حافلاً بمشاعر الود، وطافحاً بالدعوات للشاعر بالشفاء العاجل، ثم تنشرُ الجرائدُ خبر القرار الاستثنائي الذي أصدرهُ رئيس الوزراء بعلاج أمل على نفقةِ الدولة، فتغص الغرفة بباقات الزهور التي تحمل روائحَ وأحاسيس رسمية غير دافئة ويكتب أمل قصيدته الشهيرة «زهور»:
«.. كلُ باقةْ
بين إغماءةٍ وإفاقةْ
تتنفس مثلي – بالكاد – ثانية.. ثانيةْ
وعلى صدرها حملت راضيةْ
اسم قاتلها في بطاقةْ»(27).
…
(1)عبلة الرويني، الجنوبي، دار ممدوح عدوان، دمشق 2006، ص 171.
(2)حلمي سالم، أدونيسيون ودنقليون، الكراسة الثقافية، العدد2، دار آتون القاهرة، 198، ص3 .
(3)عبلة الرويني، سابق، ص15. أطلق هذا اللقب د.جابر عصفور معبّراً بذلك عن أن أمل كان يشير إلى النصر في الموت نفسه.
(4)محمود أمين العالم، شاعر على خطوط النار، مجلة اليسار العربي، باريس، 1983، ص 28.
(5)رضا الطويل، أمل دنقل: فن العزف على أوتار الغضب، مجلة دراسات عربية، ع9، بيروت يوليو 1980.
(6)صافيناز كاظم، الخديعة الناصرية، بحث: أمل دنقل شاعر الرؤية الموجعة، مجلة المصور- ع 3059، 27 أيار 1983.
(7)نسيم مجلي، أمل دنقل، أمير شعراء الرفض، مجلة آفاق عربية،ع8، 1986، ص92 .
(8)تقول عبلة الرويني (مصدر سابق) إنه لقب أطلقه عليه الشاعر حسن توفيق،ص.14
(9)نفسه، ص67.
(10)عبد السلام المساوي البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1994،ص14.
(11)حلمي سالم، أدونيسيون ودنقليون، الكراسة الثقافية-العدد الثاني، دار اتون،آذار 1980،ص4.
(12)انظر، الجنوبي، سابق،ص95.
( 13)نفسه،ص95.
(14)نفسه،ص95.
(15)نفسه،ص101.
(16)نفسه،ص19.
(17)أمل دنقل، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت ط2، 1985، ص 362.
(18)عبلة الرويني، سابق، ص 54.
(19)نفسه، ص 56.
(20)الأعمال الكاملة، سابق، ص369.
(21)عبلة الرويني، سابق، ص47.
(22)نفسه، ص10.
(23)الأعمال الكاملة، ص 365، أسماء هي ابنةُ يحيى الطاهر عبد الله.
(24)نفسه ص 367.
(25)عبلة الرويني، سابق، ص 39.
(26)نفسه، ص 131.
(27)الأعمال الكاملة، ص 371 .
التاريخ: الاثنين26-2-2019
رقم العدد : 16918