مما لاشك فيه أنه من النبالة بمكان البحث عن تلك البقع البيضاء المضيئة في رحم السواد, هي محاولة لالتقاط مكامن الخير داخل كل منها, ربما هناك في مكان ما أشخاص معمّدون بالخير والمحبة ولاينتظرون الأخذ لأنهم فطروا على العطاء دون حدود ودون انتظار المقابل, هؤلاء الذين يفيض قلبهم بالنور لو لم يكونوا موجودين بيننا فعلاً وبقوة لما استطعنا عبور السنوات العجاف رغم الشر الذي حاول أن يطغى ويسود, فنبلهم كان الأقوى.. وبالتالي هم ليسوا دونكيشوتات, وإنما أشخاص من لحم ودم يتمتعون بصفة (إنسان), ولدى الحديث عنهم ربما نغالي في حدث هنا أو نبالغ في فعلٍ هناك ولكن هذه الحالة موجودة وحاضرة بيننا متجسدة من خلال العديد من الأشخاص قلوا أو كثروا.
هذا ما يمكن استقراؤه من الحكاية التي يقدمها فيلم: (عزف منفرد) وما تضمّنه من أفكار وقيم ومفاهيم تنتصر للخير, الفيلم الذي عرض مؤخراً في سينما سيتي من تأليف وإخراج المبدع عبد اللطيف عبد الحميد, حمل شيئاً من البساطة حتى في العلاقات الإنسانية الأكثر تشابكاً والمفاهيم الأكثر جدلاً, انطلاقاً من مبدأ أن القوة في البساطة تكمن, تلك البساطة التي يمكن أن تقرأ بين سطورها الكثير من الأمور وتأخذك إلى تأملات في الحياة والواقع وتدفعك إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور حولك.
لم يقدم بطلاً افتراضياً أو فانتازياً, ولا روبن هود الذي يُنقذ الضعفاء في الوقت المناسب, ولكنه قدّم فيلماً جاء مُطعّماً بالروح الإنسانية السامية, ويمكن أن نشم من بين تفاصيله وشخصياته رائحة سورية بكل ما تعبق به من دفء وحب وحنين وأصالة, قدم أفكاره بكثير من النبل دون أن يغرد خارج الواقع, طارحاً الوجه الآخر للحرب وبشاعتها, مفضلاً رؤيتها من زاوية أخرى, تلك الزاوية التي يمكن من خلالها رؤية الجمال وسط القبح لنقول:(لا تزال الدنيا بخير), هذه الحالة العامة التي ألبسها حكايات يومية تحمل في طياتها موروثاً لا يمكن الفكاك منه, فيُدين بعض الأفكار ويتمرد كما هو حال حكاية شخصية (أمل عرفة) التي رفضت العودة للزوج الغني وفضلت عيش الحياة كما تراها رغم المرارة, هو السعي لإظهار ما حاولت الحرب إحداثه فينا من خراب وكيف استطاع الكثيرون التغلب عليها والتعاطي معها رغم الألم والصعوبات اليومية, إنه صرخة مدوية تتحدى مفرزات الحرب رافعة شعار الإنسانية.
لعل واحدة من أهم ميزات أفلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد أن من يشاهدها وإن لم يرَ اسم المخرج في (التيترات) يمكنه من اللحظات الأولى معرفة من هو مخرجها, وهنا أيضاً كانت بصمته واضحة وأسلوبه الذي يتسلل إلى العمق حاضراً بقوة, وفي النتيجة هي آلية تفكير وفهم للسينما ودورها ومفرداتها وكيفية التعاطي معها, هي أفكار معجونة بالنبل والأصالة, منتقاة من صميم الحياة بكل ما تحمل من ألم وأمل وحب وكره ومفاجآت, إنها أفلام تمر كنسمة تدغدغ الفكر والمخيلة ولكنها تترك مكان مرورها دمغتها الخاصة التي لاتُمحى.. إنه انتصار للحياة والإنسان والحب والخبر رغم أنف الشر.
فؤاد مسعد
التاريخ: الأربعاء 13-3-2019
الرقم: 16930