في لعبة الخداع والتضليل واللعب على الرأي العام وابتزاز العالم بدوله وشعوبه وحكوماته بالشعارات الإنسانية، لا أحد يمكنه أن ينافس واشنطن وهي الأشد جرأة ووقاحة وفجوراً في هذا المجال على مستوى العالم، حيث شهد مسلسل الحرب الأميركية الافتراضية على الارهاب الداعشي في سورية والعراق مئات القصص والحكايات التي لا يقبلها عقل أو منطق، فكيف لمن كان رأس محور الارهاب في سورية أن يتحول في لحظة إلى أكبر محاربي الارهاب..؟!
منذ نحو خمس سنوات أعلنت واشنطن تشكيل تحالفها المزعوم لمحاربة داعش الذي جاءت به من العراق وبقية أصقاع المعمورة إلى سورية، وخلال هذه السنوات أزهقت حربها المزعومة على الارهاب من أرواح المدنيين السوريين والعراقيين أضعاف ما أزهقه داعش، ولعل الموصل والرقة المدمرتين بشكل كامل بتكنولوجيا التدمير الأميركية أوضح دليل على أن محاربة الارهاب هي مجرد عنوان خادع والباقي تفاصيل خبيثة لا أحد يعلمها سوى البنتاغون والـ سي آي إيه والبيت الأبيض والآلاف من الضحايا الأبرياء الذين تلقوا «الهدايا» الأميركية على شكل قنابل وصواريخ وفوسفور أبيض.
في حربها الأكذوبة على الارهاب الداعشي كان داعش ينتقل من منطقة إلى أخرى بين سورية والعراق ليرتكب مجازره ضد المدنيين ويصورها ويبثها كأفلام الرعب الخارجة لتوها من استديوهات هوليوود، فيما الدعاية الأميركية الرخيصة وتوابعها في المنطقة تتبجح بالانجازات الكاذبة ضد التنظيم الإرهابي، في حين غدا جيباً صغيرا في ريف دير الزور اسمه «الباغوز» أكبر عناوين الحرب الأميركية على داعش، حيث تصب القاذفات الأميركية يومياً حممها من مختلف الأسلحة المحرمة وغير المحرمة على ما تبقى من مدنيين في هذه البلدة الصغيرة بحجة مطاردة آخر فلول داعش، فيما الحقيقة التي روتها مختلف وسائل الإعلام أن معظم عناصر التنظيم قد تم نقلهم بالطائرات الأميركية إلى ساحات أخرى بانتظار لحظة تفجيرها على قاعدة الفوضى الخلاقة التي تشكل لب السياسة الأميركية في العقدين المنصرمين.
من الواضح أن واشنطن التي تلكأت في تنفيذ قرار الانسحاب الذي اتخذه ترامب بحجة الانتصار على داعش، وأعادت النظر فيه بحجج أخرى، مبقية على جزء من قواتها في الشمال السوري بعنوان آخر ، تريد أن تبقي في رصيدها نفس الذرائع التي جاءت على أساسها إلى سورية، إذ ما يزال عنوان مكافحة الارهاب عنواناً جذاباً لصناع السياسة الأميركية، ولذلك لا تريد أن تتنازل عن أوراق الضغط التي تمتلكها بمواجهة الطموحات التركية إزاء الحالة الكردية المعقدة في الجزيرة السورية، ولا تقبل أن تصنف في خانة المهزومين أمام تعاظم الدور الروسي من بوابة محاربة الارهاب، حيث استطاع الروس بدعمهم للجيش العربي السوري هزيمة داعش وتفنيد الادعاءات الأميركية في هذا الإطار.
ولو أمعنا النظر بالسلوك الأميركي العدواني مع بلدة الباغوز الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها ثلاثة كيلومترات مربعة وعدد عائلاتها لا يتجاوز 180 عائلة فقط، واحتجازها لآلاف النازحين السوريين في مخيم الركبان بظروف إنسانية صعبة للغاية معرقلة الجهود الروسية والسورية لمعالجة معاناتهم القاسية من قبل دولتهم، سنتوصل إلى حقيقة واحدة مفادها أن الأميركي مستمر بالكذب والتضليل وهو يريد تغطية جرائمه الكثيرة ودعمه المتواصل للإرهاب في سورية بمعارك افتراضية ومشكلات إضافية تؤخر وتعرقل الحل السياسي وتلبي الهواجس الإسرائيلية المتزايدة جراء تعافي سورية وتعاظم دور محور المقاومة في مواجهة الأطماع الإسرائيلية.
كان لافتا في هذا السياق حرص واشنطن على عدم دخول أي وسيلة إعلامية إلى بلدة الباغوز المحاصرة لمعرفة من الموجود فيها وما الذي يجري على أرض الواقع، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبتها بإبقاء المعركة على الأرض السورية مستمرة لتأخير وتعطيل كافة الاستحقاقات السورية القادمة، عبر الإبقاء على مرتزقة قسد كأدوات طامحة بالانفصال واستخدامهم في مخططاتها المستقبلية سواء في سورية أو العراق.
الجميع يعلم ـ والعديد من مراكز الدراسات ووسائل الإعلام أكدت ذلك ـ أن القيادات الحقيقية لداعش لم تعد أساساً موجودة في بلدة الباغوز، حيث قامت القوات الأمريكية بعمليات إنزال نقلت من خلالها كل القيادات الأجنبية، كما نقلت العديد من الدواعش الأجانب وهناك المئات منهم في سجون ميليشيا قسد، والدليل على ذلك هو مطالبة ترامب للدول الأوروبية باستلام حصتها من داعش، قبل أن تضطر واشنطن لإطلاق سراحهم، وهو ما أثار مشاعر الامتعاض والاستياء لدى عدد من الدول الأوروبية تجاه الضغوط الأميركية في هذا الملف.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 13-3-2019
رقم العدد : 16930