في مقالة كتبها الفيلسوف سلافوي جيجيك متسائلاً عن إمكانية تغيير العالم أم فهمه، ختمها بقلبه لمقولة ماركس التي ذكر فيها: «الفلاسفة لم يفعلوا شيئاً سوى تفسير العالم بطرق شتى، لكن الأهم يظل هو تغييره».. بالنسبة لـ (جيجيك) ولأسباب عدّة بدا له أننا «طيلة القرن الماضي، استعجلنا تغيير العالم، وقد حان الوقت من أجل إعادة فهمه»..
هل يمكن فعلياً، إعادة فهمه..؟
وإن كان فُهِمَ سابقاً.. فكيف تمّ ذلك..؟؟
كيف يمكن ضبط مجرد خطوات أولى لتفسير «الحاصل» واقعياً، في أفق وعينا.. وصولاً لفهم واستيعاب ليس العالم بمختلف تجلياته، إنما فقط، فهم ما يجري على بقعة أرض مختصرة بحدود «وطن».
تبدو مختلف الإشراقات والتأملات الفكرية التي جاء بها الفلاسفة، كانت من قبيل نحت مصطلحات وخلق مفاهيم، لا أكثر، كما يرى جيل دولوز في فهمه طبيعة عمل الفيلسوف..
فهل تؤدّي محاولات تظهيرهم «الحاصل» على هيئة مفاهيمية، إلى تقريبنا أكثر من فهم العالم واستيعاب مايجري..؟
من الفلاسفة الذين عُرفوا بإيجاد مصطلحات تصف الواقع، يبرز تيودور أدورنو الذي صاغ مفهوم «صناعة الثقافة» بمشاركة ماكس هوركهايمر.. وذلك في محاولة منهما لجعل «صنمية السلعة» تشمل الإنتاج الثقافي/الفكري وليس فقط الإنتاج المادي.
منذ الزمن الذي كتبا فيه الفصل المعنون «صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير»، المنشور ضمن كتابهما المشترك «جدليّة التنوير» (1947)، حتى الزمن الحالي ثمة فترة فاصلة بين لحظة إنتاج هذا الكتاب واللحظة الحالية، وخلالها تمّ ابتكار الكثير من أساليب تسليع المنتج «الثقافي».. لدرجة وصلنا بها إلى وصف كل سلوك أو نمط فكري أو حياتي بـ(الثقافة).. وحالياً نحن أسرى نمطين من الثقافة المصنّعة التي تكتسح أمداء الرؤية لدينا.
النمط الأولى جعل من الجمال سلعة تُباع لنا، وقتما نشاء وكيفما نرغب.. ووفق المواصفات التي نشتهي.. والأصح أوهمنا هذا النمط أننا نختار ونرغب.
والنمط الثاني جعل من العلاقات والصلات الآدمية سلعة في أروقة منصّات التواصل الاجتماعي.. التي إن لم تكن سبيلاً للمزيد من الأصدقاء أو المعارف، فهي وسيلة لخلق جسر نحو آخرٍ معلّب ومؤطّر بهيئة التنميق المبالغ بها.
وفي كلا النمطين هناك نوع من الإفراط في طريقة استهلاك «منتج» قيمي، فكري، ثقافي، دون وعي مباشر.
هل حاجتنا حقيقية لهذه الأنماط «الثقافية» أم وهمية..؟
هل يمكن توصيف طبيعة «الإنتاج الثقافي» الخاص بعصرنا، لاسيما في الحيز الجغرافي الذي ننتمي إليه..؟.. وكيف لذلك أن يحصل، حالياً، دون نمط الاستهلاك المصدّر لنا على مواقع السوشال ميديا..؟
لعلها حالات أو سياسات لتخدير وعي الجماهير.. لأن الصناعة/التصنيع ثقافياً، توهم الناس أنها تتكيّف وفق طلباتهم وردّات فعلهم، وللحقيقة متى ما دخلت الثقافة إطار التصنيع أصبحت هي من يكوّن رأي الجماهير بل وتقولبه على هواها.
من أفظع مخاطر صناعة الثقافة برأي أدورنو وهوركهايمر يتمثّل بحقيقة «تخديرها للوعي الجماعي، وإدخالها لجموع كبيرة من الجماهير في دوائر مفرغة لا سبيل في الخروج منها، كل ما نستطيع فعله هو إعادة الدوران داخل ذات الدائرة، وتكرار وإعادة تكرار وإنتاج وإعادة إنتاج الفراغ»..
ومن أجمل توصيفات الواقع الحالي، بكلا نمطيه الثقافيين الآنفين، أنه يبتكر إنتاج دوائر الفراغ.. ويستمر بإعادة إنتاج المزيد منها.
ويبدو أننا نتأرجح بين مقولة ماركس التي تبتغي تغيير العالم، وبين مقولة جيجيك التي ترغب بفهمه أولاً.. وبين هذه وتلك لابد من إعادة ضبطه بمنطق يبتعد عن تصنيع الفراغ واللاشيء.
لميس علي
lamisali25@yahoo.com
التاريخ: الاثنين 25-3-2019
رقم العدد : 16939