للتراث وجبته الدسمه من الحروف والكلمات، فهو البساط الممتد من أطراف العمر إلى أعماق الذاكرة.. تلك الذاكرة التي تغني التاريخ وتحفظ للشعوب نتاجها وإبداعها وأعمالها على جميع المستويات.
في رحلة بحث وتمحيص عميقين يسرقك الوقت وأنت تبحر في أيقونة كتاب الزمن السعيد لتراثنا الساحلي السوري للأديبة فريال سليمة الشويكي، تستوقفك آلاف الصور التي جسدت أدق التفاصيل لتستجمع ما عصف بذهنك من أحداث أخذت لون الواقع والوقائع لكل من زار وسكن هذه البقعة الجغرافية من تراب الوطن.
هذا الكتاب التحفة الذي عرض له في قراءة أولية الأستاذ حامد حسن بأسلوب جزل ووصف مبتكر لطبيعة العناوين والكلمات كانت بمثابة طريق حرير تستريح في خاناته كل ألوان الفنون التراثية التي حفظتها الذاكرة الشعبية ومددتها عوامل الحضارة المتراكمة.
طافت المؤلفة بأسلوبها الرشيق المحكم بسلاسة بعيداً عن أي تعقيد إذ حرصت أن يكون ما جمعته شاملاً لا تجزئة حدود، مروراً بأبناء اسكندرون ممن تسنى لها اللقاء معهم والاستعانة بما لديهم من معلومات باقية وأغان وسواها، اسكندرون التي ما زال تراثها يمت إلى تراثنا بصلة القربى والعادات، ذلك أن أرض الساحل من فلسطين إلى لبنان حتى آخر حدود اسكندرون تحمل صفات الأرض الواحدة، والمشاعر والتاريخ والعادات الواحدة أشبه برداء زاهٍ يحرك أطرافه الهواء، فيموج، وتنقل الأمواج والعصافير أخباره مسرعة بين هذا الجزء وذاك، فتبقى الصورة هي الصورة، واللحن هو اللحن، والأماني هي الأماني حسب توصيفها.
ملامح عيشنا
تستعرض الشويكي في الفصل الأول خصوصيات المنزل الريفي ومحتوياتها من الداخل والخارج حيث يشاهد في الريف الساحلي ثلاثة أنواع من المنازل منها ما بني بالحجر الرملي المسوى المتوافر في المنطقة، سقوفها من الحديد والاسمنت، وجدرانها مرتفعة فيما نوافذها رحبة متسعة ويضم المنزل عدة حجرات يتم التفنن فيها حسب قدرات مالكيها من فقراء وأغنياء.
فيما القسم الثاني من البيوت التي كانت سائدة بشكل واضح يستعمل في بنائها الحجر (الغشيم) غير المسوي والصخور التي يحرص على جعلها من أساس المنزل لتزيده متانة، فيما الثالث لا يختلف عن سابقه في شيء من حيث بساطة التكوين سوى أن هذا النوع عبارة عن سور كبير، أو الحجر الغشيم تبنى فيها بيوت متعددة متلاصقة كأشكال القلاع القديمة.
وتصف الكاتبة بناء المنازل بمجتمع القرية المتكاتف المتعاون كأن يشكل الأهل والجيران غالباً ذاك الكادر الذي يحتاجه بناء أي منزل.
على السطوح
ومن التفاصيل المذكورة في هذا الإطار وجود مدحلة على كل سطح وكيف يخصص قسم من الداخل للإنسان وهو القسم الذي يواجه الباب نظراً لتمتعه بالإنارة الكافية والتهوية، إلى جانب فسحة الجلوس والنوم، وقسم المواد التموينية الذي يتشكل من العنابر، والخوابي، والضروف، الخاليات، شكاية التين، ومكان للتبغ. أما مواد المؤونة والمطبخ، فكانت إما من النحاس، أو الفخار، أو الخشب، أو القش، أو أعواد الريحان، أو القصب مع ذكر خصوصية كل من هذه المواد. لافتة في الوقت ذاته إلى معاناة الإنسان في المنزل الترابي، من ناحية النظافة وانتقال كثير من الأمراض التي تصيب الحيوان إلى الإنسان بواسطة الحشرات من بق وبرغش وذباب وغيره.
زينة المنزل
كان الاهتمام بزينة المنزل من الأشياء اللافتة التي كانت تزين جدران المنازل البيضاء، أو تعلق على الساموك صور مختلفة تمثل القصص الدينية. وأخرى تمت إلى البطولات والحكايات وقصص الحب والسير الشعبية. ومن الأمثال الرائجة عن المنزل وتردد لغاية اليوم..
منها على سبيل المثال (الله مبارك بوجوها وعتابا، اللي بيتو من قزاز لا يرمي الناس بحجارو، بيت الضيق بيساع مية صديق، صدر البيت إلك والعتبة إلنا، الطاقة اللي بيجيك منها الريح سدها واستريح، كنس بيتك ما بتعرف مين بيدوسو، غسل وجهك ما بتعرف مين بيبوسو، المجنون مالو غير بيتو، والعاقل مالو غير بيتو).
تناول الفصل الثاني من الكتاب خصوصية اللباس حيث ارتدى الإنسان في الريف الساحلي ما يلائم المناخ أولاً، والعمل في الأرض ثانياً. تقول المؤلفة الشويكي: قبل أن تغزو الأزياء الغربية المنطقة وتطغى على الزي الذي كان سائداً، كانت هناك تركة حضارية، يصعب معرفة مصدرها، وهي مزيج من تركات حضارية للأقوام التي سيطرت على الساحل على امتداد تاريخه الطويل الذي توالى عليه الفينيقيون، الكنعانيون، الآراميون، الفرس، واليونان والعرب والأتراك. وبشكل عام كانت تراعي الفلسفة في الحياة أولاً، والعقيدة الدينية والوضع المادي، وطبيعة المناخ والسن والجنس، من ذكر وأنثى، وكان اللباس من المواد المتوافرة كالقطن والحرير، والصوف، وهي نتاج محلي، وكانت المناسج المحلية المنتشرة في بعض القرى تسد حاجة السكان، وحسب تدوين المؤلفة بقيت الأنوال اليدوية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تنتج (والخام والقطن الساذج) الذي يشكل الجزء الأهم في لباس الناس.
توسعت المؤلفة بتوصيفات اللباس لجميع الشرائح امرأة ورجل وشاب وفتاة وطفل، من أسماء وأغان وأمثال من الطربوش إلى السروال. وكيف غزا اللباس الغربي عن طريق لباس بعض المسؤولين والانتقال إلى لباس البنطال والألوان الفاتحة حسب الموضة.
صباح الخير يا بو طربوش رومي
مفرع بالعبا وطاق الهدومي
من مرعاك لأعالي الكرومي
سمعت غناك يا أم العصاب
كما كان للزواج قصة طويلة في عاداته وتقاليده المتبعة والمشتركة على امتداد ريف الساحل السوري حيث يذكر الكتاب بعض الصفات الأساسية التي توهب للفتاة والشاب للزواج، فالفتاة في الريف قبل كل شيء تدرب على الطاعة، طاعة الأهل صفة ترثها الفتاة وتتشربها من أمها وجدتها، وعمتها وخالتها، وتعلم منذ الصغر أنها سبيلها الوحيد للعيش بأمان.
فالطاعة كانت الصفة الأولى، والصفة الرئيسية الثانية التي يجب أن تتوافر في الفتاة الشرف وحسن السمعة، ثم الحالة المادية، والسن، والجمال، والشعر وغيره من مراحل وطقوس اختيار الشريك، الشاب والفتاة، إلى موعد العرس، ودعوة الناس والاحتفال بجميع ملحقات هذه العادات والتقاليد.
كما عرجت المؤلفة على موضوع عادات المناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية.
فتحت عنوان فصل الربيع وعاداته ذكرت المؤلفة بكثير من الدقة والتفصيل لمفهوم الزهورية والاستعداد لفصل الربيع حيث كان الناس ينتظرون بفارغ الصبر قدوم هذا العيد، يشاركون الطبيعة الساحرة فرحتها بثوبها الجديد في ذلك اللقاء اليومي والتظاهرة الاحتفالية بمقدمه الذي يتجلى كل يوم وقت العصر، فسحات تتخللها في كثير من الأيام عروض لتسليات مختلفة تجذب الناس ويتكسب أصحابها منها، تلك التسليات التي كانت تتخذ لها مفارق الدروب والساحات الصغيرة مكاناً، حيث كان الناس إلى جانب ارتداء الملابس الجديدة الزاهية، تحنَّى الأيدي والشعور عند المسنات وتجهز الزوادة ليوم كامل احتفالاً بالإقبال على الحياة.
وقد طرأ تعديل كبير على معنى وقيمة عيد الزهورية وتجلت روعته أكثر بعد رحيل المحتل الفرنسي عن أرض الوطن في السابع عشر من نيسان عام ١٩٤٧ ميلادية ما جعل عيد الزهورية الذي يوافق هذا التاريخ والذي كان مجرد عيد اكتسبه الناس ممن سبقوهم وساروا على نهجهم، يتحولون بمشاعرهم وابتهاجهم إلى ما هو أسمى، وأكبر وقعاً في النفوس، ألا وهو شعورهم بأنهم يحتفلون برحيل المستعمر الذي دأب بمساعدة الإقطاع على تحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق. وقد أصبحت أماكن الاحتفال الكثيرة التي تجمع الناس محط أنظار وقبلة المثقفين من الشبان لنشر أفكارهم التقدمية.
وفي فصله السابع عرجت المؤلفة الشويكي على الأعمال التي يقوم بها كل من المرأة والرجل من نقل للماء من الينابيع والأنهار والسواقي رغم تمتع الساحل بكميات وفيرة من الأمطار، فقد كان الإنسان ولقلة التدبير الناتج عن ضيق ذات اليد وإهمال الحكومات التي كان همها أن تستنفد طاقة الإنسان والطبيعة معاً، فكانت معاناة الإنسان بين يديه. وإلى جانب نقل المياه. كان التحطيب والتعشيب والحليب والغسيل والتسليق والعجين وهذه كانت من أعمال المرأة. فيما الرجل كان يقوم بأعمال الحراثة، والحصاد، الرجد، البيدر، التذرية، سلق القمح وقشره، تفاصيل كثيرة يصعب ذكرها.
ومن صور الماضي غاصت المؤلفة بمهنة الحلاق الأصلية حين كان يركب دابته متنقلاً ويتوقف أمام البيوت حيث يحتاجه الزبائن، ولا يتوانى بالمقابل عن ممارسة بعض مهام طبيب الأسنان من خلع ضرس وسن وغيره.
ولم تغفل المؤلفة ما كان يسببه ذكرى الإقطاع من نبش للأحزان الكامنة المدفونة في ثنايا الخاطر، فصورة الإقطاع البشعة المعالم ستظل ملوثة بظلم الإنسان وانتهاك حريته، وحرمانه من حقوقه، ودفن صوت احتجاجه، والوصول بالمعاملة إلى أسوأ الدرجات التي يمكن أن يتصورها المرء في معاملة القوي للضعيف.
هذا الكتاب التحفة ربما لم تترك مؤلفته شيئاً يخطر على البال إلا وذكرته فمن الصعب الإحاطة بمعطيات ثلاثة عشر فصلاً تزخر بكنوز من التراث، حيث يشكل عنواناً رئيسياً وفرعياً لمادة أو موضوع مستقل وهذا ما سنعمل على ذكره في مواد لاحقة ولاسيما في موضوع الثقافة والأدب الشعبي من كتاتيب ومدارس وعادات واعتقادات كانت منتشرة، مروراً بالحكايات والتسليات، وحلو الكلام.
يتألف الكتاب الذي حمل عنوان سلسلة كتاب النشر الالكتروني الصادر عن وزارة الثقافة (الهيئة العامة السورية للكتاب ٣٥٩ صفحة من القطع المتوسط للمؤلفة فريال سليمة الشويكي الذي دونت من خلاله ذاكرة حياة من الزمن السعيد لتراثنا الساحلي الريفي.
غصون سليمان
التاريخ: الاثنين 25-3-2019
رقم العدد : 16939