منابع إلهام التصوير الحديث

الملحق الثقافي..د. محمود شاهين

ضمن المشروع القومي للترجمة في جمهوريّة مصر العربيّة، صدرت ترجمة لكتاب (التصوير الحديث في مصر) الذي ألفه الناقد التشكيلي من أصول فرنسيّة (إيميه آزار) الذي ولد في الجزائر، وعاش ومات في مصر. نشر هذا الناقد في العديد من الصحف والدوريات، ونظم معارض فنيّة كثيرة، وكان من بواكير أعماله كتاب أصدره بالفرنسيّة عن الفنانات التشكيليات المصريات. أما كتابه الذي نحن بصدده فيشكل أهم ما أنجزه في هذا المجال، حيث كشف فيه عن قدرات نقديّة عالية، وجرأة في تناول قضايا الفن التشكيلي التي كانت من المسلمات في مصر، وقد استغرق سنوات طويلة في إعداد هذا الكتاب الهام الذي صدر بالفرنسيّة العام 1961 وقام بترجمته إلى العربيّة إدوار الخرّاط ونعيم عطية.

 قدم للكتاب (سيريل دي بو) مؤكداً أنه كتاب على غاية من الأهمية، حيث أبان فيه المؤلف عن جدارات كثيرة، وأنه كرس ما يربو على عشر سنوات من حياته لموضوع الكتاب الذي اقتضى منه مثابرةً وتفانياً وعزيمةً صادقةً، وكثيراً من البحث والصبر من أجل الدفع به قدماً، ليس فقط لأن أعمال المصورين المصريين كان متعذراً الحصول عليها، أو كانت مشتتة الشمل، بل أيضاً، اقتضى الأمر عدم الالتفات إلى الاستقرار المسبق عنها، وتجاوز سطحية الآراء المجمع عليها، ثم التصدي لرأي عام يستند إلى أكاديميّة تسلطيّة. تناول الكتاب الزاخر بالمعلومات الدقيقة، والتحليل الذكي، مفاصل هذا الجنس من الفن التشكيلي المصري المعاصر. والكتاب لا يقتصر على دقة المعلومات فحسب، بل يتجاوزها إلى التحليل الحصيف للوحة، والعلاقة بين الحركة التشكيليّة والأبعاد الاجتماعيّة، فضلاً عن الأبعاد الروحيّة للفنان.


التصوير بلغة التصوير
يؤكد (سيريل دي بو) أن مؤلف الكتاب (إيميه آزار) يتحدث في كتابه عن التصوير الحديث في مصر بلغة التصوير، دون أي إغراق للقارئ بالضياع، رغم أن هذه الخصيصة قادرة على أن تُنفّر القارئ الكسول الذي يُفضّل تعريجات زخرفيّة على الروح النقديّة، أو القارئ الدَّعي الذي يقيس متعته بالكلمات الطنانة التي هي أكبر منه. ويؤكد أن قراءة هذا الكتاب بعناية يقود إلى حقيقة أن الفنانين الذين هم مصريون أساساً، لا يرون في بلادهم موروثات دخيلة (أكزوتيكيّة) من تلك التي كان يبحث عنها نفر من المصريين الغربيين. ولهذا فإن هؤلاء المصورين المصريين إنما يصدرون عن فن شعبي لم يتسنَّ للغربيين فهمه حق الفهم، بل إنه فضلاً عن ذلك، صار الفن الغربي هو الذي يبدو بالنسبة إلى المصورين المصريين دخيلاً ويغريهم بما في الرحلات من سحر. وهو ما يقتضي من ناقد التصوير المصري أن يهبَّ في وجه المصور المصري الذي يريد أن يمارس الفنون الدخيلة في مصر، محذراً إياه بأنه إذا فعل ذلك فسوف يكون كمن يرى بعين غيره!

كتاب غير مسبوق
يرى إدوار الخرّاط أن هذا الكتاب غير مسبوق في اللغة العربيّة، فهو يرصد ويؤرخ حركة التصوير المصري الحديث منذ بواكيرها. لا يقتصر على الرصد والتأريخ، بل يذهب إلى التحليل المتبصر الدقيق لمعالم وأعلام هذه الحركة الثرية بريادتها وإنجازاتها ومغامراتها، إلى جانب المعلومات التي لا غنى عنها للباحث وللمُحبِّ على السواء. رؤية مبنية على البحث المتأني، والاستقصاء الدقيق، والتوثيق المحكم، تجمع إلى وجهة النظر الشخصيّة التي لا غنى عنها في النظر إلى الفن وفي تحليله. نظرة موضوعيّة بقدر ما يكون في هذا النوع من الكتابة من موضوعيّة ليست حياديّة بل نابعة عن المحبة الجادة الأمينة على موضوعها. هي كذلك رؤية تنأى عن البهرجة اللفظيّة التي لا غنى فيها، وتستند إلى لغة التشكيل الخالصة.

 

فن الضرورة العضويّة
يقول مؤلف الكتاب (إيميه آزار) إن من يتكلم عن تصوير مصري حديث يتخيل، على الرغم من وجود هذا الفن، أنه نمط فني منمق حسب أكثر التقاليد الفرعونيّة رسميةً ورسوخاً. كما يتخيل ما كان عليه الفن القبطي من بدائيّة وصفاء قلب، وخيالات أذواق فارسيّة، وما دام الأمر يتعلق بمصر، فسوف يقولون: هذا التصوير المصري الحديث سوف يضحي أفعواناً خيالياً ذا تسعة رؤوس، وخطراً متجدداً، ومسخاً شاذ الخلقة. ويرى أن التصوير المصري الحديث ليس بأقل غرابة، ومهما كانت غرابته، فإنه مثل كل واقع هو أساساً قابل للاستمرار، وإذا كان مقيداً في تقاليده، فإنه ليس مجرد نتاج ألعوبة من ألاعيب الفكر، وإنما هو ضرورة عضويّة، على نحو أنه ليس بالإمكان أن ينتقص إلى مجرد مزيج خيالي.
ويُشير (آزار) إلى أن التصوير المصري الحديث لم يكن في البداية يرى أنه بإمكانه أن يجد منبعاً لإلهامه في تقاليده. وبسبب الخطر التقليدي الذي ينهى عن التصوير التشخيصي، اعتقد أنه وثيق الصلة بتقاليده هذه، جاعلاً نفسه تارة إيطالياً، أو مستشرقاً، أو غريباً دخيلاً. كان المصور المصري يقول لنفسه: (لنكن انطباعيين على الطريقة (الإيطاليّة) أو (الأكاديميّة). وكان يفكر أن يصبح أصيلاً من خلال محاولة النظر بعين أفضل من الغربيين إلى استشراقيّة بلده، عاكفاً من ثم على (مشاهد من السوق) و(سكن الحريم) و(غروب الشمس عند الأهرامات) فضلاً عن (عودة المحمل).

 

ثم بعد ذلك، طلب أن يكون في طليعة مدارس الطليعة، وراح ينتج بروح سورياليّة وتكعيبيّة ووحشيّة، ولم يكن لديه ما يقوله غير ذلك. لم يكن لديه غير الرغبة والإرادة في أن يكون معدوداً ضمن الفنانين الغربيين المقدامين. أما من كان منهم أكثر ذكاءً فقد جعل من نفسه انتقائياً، ولم يكن هذا خطأهم، فقد كان أساتذتهم فنانين أجانب مختلفي المنبت والتكوين. وقد كان المنطق الذي يستند إليه العقل الباطن لهؤلاء الانتقائيين منطقاً غاية في التبسيط. الكواتروشينتو، المدرسة الفلامنديّة، رائعة براك التكعيبيّة، دالي السوريالي، استشراقيّة دي لاكروا: قيمة مؤكدة، فإذا جمعت بين كل هذا، فإنني سوف أبلغ ذروة التصوير.
تأثيرات وخواص
ويعتقد (آزار) أنه اليوم يمكن أن يُقال عن المصوّر المصري الشاب، إنه أكثر فناني العالم وعياً بما يفعل (فلنصوّر كمصريين) على أنه هنا يكمن الخطر بالنسبة إليه، ومن هنا أيضاً تتبدى شجاعته.
من جانب آخر، لمما يدهش أن التقاليد الفرعونيّة ماثلة في التصوير المصري الحديث، لكنها ليست بفنها الحميمي، ولا بشكليّة فنها المقدّس، وإنما هي ماثلة فحسب بوزنها وسكونيتها ومركز ثقلها المعماري الذي يضفي على هذا التصوير كلاسيكيّة قادرة على احتواء ومعادلة كل اندفاعاته الرومانتيكيّة. أما التقاليد القبطيّة فقد أسهمت في الأخص فيما لم يكن متوقعاً، وهو إقامة جسر يسمح للتعبيريّة المتبناة من التصوير المصري حديث العهد أن تلحق بالواقعيّة وتلتقي بها، وللرمزيّة الجامحة، وخشونة مسلمات الفن السوري والتصاوير الحائطيّة للأديرة البيزنطيّة الأكثر بدائيّة وانعزالاً عن ترفيات العاصمة المفرطة، وهو ما يعتبر أساساً لا منازع فيه لكل فن شرقي.
من جانب آخر، التقاليد الزخرفيّة للفن المملوكي ماثلة هي الأخرى في التصوير المصري الحديث، لكنها محوّلة تبعاً للفن الشعبي المصري، بحيث يجد فيها الفن المصري الحديث وسيلة تعبير مدهشة لمواد واردة إليه من خرافات سحيقة، وموسيقات مقاميّة، وأغاني مزوقة بزخارف عربيّة، وحليات هندسيّة منغمة، وعلى غاية من الغرابة، أن نجد تكاثر زخرفي يُعقلن نمطاً نظرياً من الوجود. أما عن الترسيم الفارسي، فلا بد من بعضٍ من رهافة الذهن للتعرف عليها في خضم فظاظة الأشكال الشعبيّة، وتحت وطأة الكتل التي يعزوها المؤلف إلى التقاليد الفرعونيّة، لكن تلك الفارسيات هناك، غالباً ما تبسط سلطانها على التكوين والمواقف، وتحدد الإحساس بالفراغ، وتسطيح الشخوص.
وفي الختام، يؤكد (إيميه آزار) أن (مدرسة القاهرة) في التصوير، سوف تبلغ نضجها يوم يعرف المصورون المصريون جميعاً، مهما تكن النزعة الجماليّة (الاستطيقيّة) التي ينتمون إليها، أن كل فن بعينه يُعيد اكتشاف تقنيته من أجل استخدام لا مثيل له. على أن التصوير المصري الحديث قد أصبح اليوم أمراً واقعاً، وسوف يكون موجوداً من الآن فصاعداً.
مدارس واتجاهات
توقف الكتاب عند المصورين المصريين أمثال: محمد ناجي، محمود سعيد، إيمي نمر، جورج صباغ، حسين يوسف أمين. ثم عند القلقين أمثال: كامل التلمساني، فؤاد كامل، رمسيس يونان، باروخ. ثم عند جماعة الفن المعاصر ويمثلها الفنانون: عبد الهادي الجزار، سمير رافع، إبراهيم مسعودة، كامل يوسف، حامد ندا، ماهر رائف، محمود خليل، موجلي. ثم عند جماعة الفن الحديث ويمثلها الفنانون: جاذبية سري، صلاح يسري، عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، حامد عبد الله. أما المستقلون فيمثلهم: صلاح طاهر، حامد عبد الله، الأخوان سيف وأدهم وانلي، موريس فريد، حمدي خميس، محمود البسيوني، سعد الخادم، لطفي زكي، مصطفى الأرناؤوط، أبو خليل لطفي، خديجة رياظ، مارجريت نخلة، فسيلا فريد، تحية حليم، إنجي أفلاطون، حسن سليمان، فريد كامل، إبراهيم شهدة.
ويفرد الكتاب فصلاً للفنانين الأرمن ومنهم: أونيج أقيدسيان، ج.بوزانت، جرابديان، أشودزوريان، آرتي طوباليان، بوزانت جوجامانيان، هاكوب هاجوبيان، صاروخان، سيمون سمسونيان، هرانت انترانكيان، مارجوفيسون. كما يفرد فصله السابع للرسامين الأجانب الذين اجتذبتهم مصر ومنهم: إريك دي نيميس، بيبي مارتان، إميل برنار، مارجو فييون، لوسي كارولين، راينر، بورشار سميكة، انجلو بلو، أرستيذ بابا جورج، أندريه ساسون، أنريكو برانداني، كليا بدارو.
الضوء والظلال والألوان
وفي الختام، يُشير (إيميه آزنار) إلى أن معظم الرسامين المصريين المنحدرين من أصول أجنبية، أو ذوي الثقافة الغربيّة، أو أولئك الذين ينتمون إلى وسط اجتماعي متطور، قد ينصاعون إلى الصورة المألوفة للفنون الغربية مهما كان من أصالة إسهامهم التشكيلي. وحينما سعى هؤلاء إلى أن يعرفوا أنفسهم باعتبارهم (مصريين) فقد كان ذلك عن طريق الضوء والظلال والألوان التي تنم قليلاً أو كثيراً عن استشراقية متحررة، إن خيراً وإن شراً، من تقاليد الاستشراق الغرائبي، بينما على العكس تماماً، فإن المصريين الأصلاء، أي أولئك الرسامين القادمين إلى الفن من الأحياء الشعبيّة في القاهرة أو في الإسكندرية، إما قد افتتنوا بسحر الدراما الاجتماعيّة، أو المناخ المأساوي للحياة الشعبيّة المصريّة، أو اتبعوا إلى حد أعمق مما ينبغي تقاليد معينة لا تراث بصرياً فيها، ولا تقاليد تصويريّة، بحيث وضعوا أنفسهم في الغالب بمنأى عن التقاليد التشكيليّة للموضوع الذي تناولوه، والذي يجعل من فنهم متفرداً حقيقة.
إن هذا التفرد، وذلك الإلحاح من العمل، يجعل من هؤلاء الفنانين الشبان معارضين لأسلافهم الذين يصح أن نطلق عليهم (متغربين). ومع ذلك فإن الفنانين المصريين الذين قام (آزار) بدراستهم في كتابه (التصوير الحديث في مصر) حملوا الجديد حتى لو كانوا مخطئين. فهناك عندهم أولاً أسلبة (وسفسطة). أي رهافة في التناول حتى في الوضع الجمالي للصور الشعبية المصريّة. ثم هناك تفسير للنماذج الفرعونيّة التي صنعت الظروف الجغرافيّة والفسيولوجيّة نفسها، حتى يتحقق بالنسبة إلى البعض ذلك الروح الرمزي -الميتافزيقي للشرق العريق لفناني المنمنمات الفارسيّة، أو للاستخدام الجرافيكي للأرابيسك، ولكن أياً كانت الخميرة الشرقيّة الأساسيّة التي يصدر عنها الفنان، فمن الواضح تأثير الفن الغربي عن طريق التصوير الضوئي وحده.

التاريخ: الثلاثاء16-4-2019

رقم العدد : 16946

آخر الأخبار
باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب دوبلانتيس يُحطّم رقمه القياس رعاية طبية وعمليات جراحية مجاناً.. "الصحة" تطلق حملة "أم الشهيد" ليست للفقراء فقط.. "البالة" أسعار تناسب الجميع وبسطاتها تفترش أرصفة طرطوس ماوراء خفايا الأرقام والفساد في اقتصاد الأسد المخلوع؟ بعد ترميمه.. إعادة افتتاح الجامع الكبير في اعزاز بريف حلب الشمالي من شجرة الرمان كانت البداية.. ريم درويش استثمرت أوقات فراغها بمشروع مثمر حالة ضعيفة من عدم الاستقرار الجوي مع ارتفاع في درجات الحرارة غداً إدارة إلكترونية وربط مباشر بالمصارف.. ما سر "الحكومة الرقمية المصغرة"؟ برامج عمل مشتركة مع "أكساد" لتطوير وتنمية الثروة الحيواني