على طاولة الطعام تعقد الصفقات (عشاء عمل أو غداء عمل )ويطيب للعشاق تبادل نظرات الحب ومفردات الغرام على مائدة تزخر بأشهى الأكلات وسط أجواء هادئة ،وعلى أنغام العزف الحي على العود أو الكمان أو البيانو وتوطيد أواصر الصداقة تكون بتشارك الطعام (الممالحة )أما ست الكل فلا يهنأ لها بال إلا بتزويد صغارها بكم من الطعام في البيت والمدرسة ،وشغلها الشاغل طبخة بكرة ؟لتظهر هذه النعمة بوزن زائد تفاخر فيه أمام صديقاتها فهي شهادة بأنها ست بيت من الطراز الرفيع .
طاولة الطعام بأصنافها وأطباقها وآدابها هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الشعوب وانعكاس لها ،وتكثر الأمثال الشعبية التي هي مرآة لمعتقدات الناس عن الطعام ..فالأكل على قدر المحبة ..ويشبه الناس بأنواع الطعام مثل السمن والعسل وأقرب طريق إلى الزوج معدته ..والجوع أحسن طباخ ووجهه لا يضحك لرغيف الخبز ،أما وجهها مثل رغيف الخبز ..
طاولة الطعام الأسلوب الأمثل لإثبات الغنى والتحضر والمهارة والإبداع في تنويع الأطعمة والأصناف على مائدة واحدة ،وأكد العلماء اختلاف الطبائع الشخصية باختلاف نوعية الطعام ،يقول سافارين في كتابه فسيولوجيا التذوق «قل لي ماذا تأكل ؟أقل لك من أنت؟ »
على الرغم من أن جميع الديانات السماوية والثقافات الأرضية تنبذ التبذير في الطعام وتعتبره نعمة يجب استخدام الحكمة في التعامل معها والحفاظ عليها إلا أن الإنسان مصر على التنويع والتوسع في قاعدة مأكولاته ..وللناس فيما يأكلون مذاهب ..فهناك من يتوارى ليأكل وهناك من لا يهنأ له طعام إلا مع آخر يشاركه اللقمة الهنية التي تكفي (مية )وكل مشروك مبروك وهناك من يكتفي بلقيمات وآخر يستمتع وهو يأكل حتى التخمة ..والحقيقة الوحيدة أن حلاوة ولذة الطعام تكمن في أكل ٍمن عرق جبين وعلقم في طعام من ماء وجه .
تطويع الإرادة..وتجنب السفه الاستهلاكي
نخاف من الجوع ..ويقتلنا الشبع جهلا بثقافة طعام مازلنا بأمس الحاجة إلى تعلمها ..التزود بها،وتطويع الإرادة عنوان هذه الثقافة كما يقول الأستاذ خالد محمد الطويل موجه أول لمادة التربية الإسلامية في وزارة التربية،ويعني ذلك الوقوف عن تناول الطعام في أول درجات الشبع ،أول ما نشعر بلذة الطعام،وعن سابق إصرار وتصميم يقوم البعض بحرمان أجسادهم من التمتع بلذة الطعام بسبب عمليات تجميل وذلك تخلصا من وزن زائد بدل من وقاية (تطويع إرادة )تنعكس صحة وحيوية على أجسادهم ووفر اقتصادي يصرف في مجالات أخرى كالصحة والتعليم ولاسيما أن نصف الدخل وأكثر يخصص للأكل والشرب .
أما الإسراف والتبذير فالجميع متفق على أنه سلوك اجتماعي مذموم يتنافى مع توجيهات الإسلام (يا بني ادم..و كلوا وشربوا ولا تسرفوا )والله لا يحب المسرفين ولكن الواقع شيء آخر وخصوصا في شهر رمضان ورغم تزايد عدد الفقراء والعاطلين عن العمل وتراجع الدخل الشهري وانهزامه أمام الغلاء المعيشي إلا أننا مازلنا نرى الازدحام على الموائد الرمضانية بأصناف من الطعام ..المقبلات والحلويات والمسليات والمشروبات ولكل يوم طعامه المميز ونصف هذه الموائد ترمى بعد الفطور في حاويات القمامة .
من أهم الحكم التي شرع من أجلها الصيام التذكير بالمحتاجين وليس كسر عيونهم وتفقدهم بالطعام والشراب ،ليس فضلات ما تبقى من فطورنا ولا حشو بطن،ولا منة أو فضل وعندما يتقبلون هذه الصدقة فهم المتفضلون علينا ، والوقاية من الإسراف سلوك يعتمد على وعي تدبيري وترشيدي من ست البيت وذلك بتفننها بأصناف الأكل ومحاولاتها التشجيعية لصغارها بالترغيب لتناول المفيد وبكميات معقولة وتذوق كل أنواع الأطعمة وعدم النفور من أي صنف مهما كان وببعض الإضافات على أطباق قديمة معروفة تستطيع أن تخرجها من عاديتها وتبرزها في شكل مغر جديد .
التعايش مع لقيمات ..صحة
وعن أسوأ العادات غير الصحية في رمضان يشير الأستاذ خالد إلى ظاهرة بعد الإفطار وهي حالة الهضم المستمر حتى السحور من حلويات ومسليات ومشروبات وذلك استعدادا لصوم يوم آخر وما الشعور بالجوع إلا نتيجة للشبع والأكل الزائد
وأيضا التكاسل والخمول وقلة النشاط البدني بحجة الصوم يزيد الشهية والأكل حتى التخمة التي تذهب الفطنة و(ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه )والاصطلاح مع الجوع مفهوم لا يعني الشعور بآلام الجوع وهذه الآلام لا يشعر بها الإنسان إلا بعد أيام من الحرمان من الطعام وليس ساعات إنما التعايش مع لقيمات ،نأكل لنعيش وليس العكس (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه )وتناول الوجبات الرئيسية وخاصة الفطور ومن الناحية العلمية صوم شهر رمضان ثورة صحية ..قتل للخلايا المريضة وتجدد أخرى …صوموا تصحوا .
وعن إكرام الضيافة والذي يكلف أحيانا مالا طاقة لنا به ،يقول :الإكرام يكون بالتأهيل والترحيب والابتسامة والجود من الموجود وبالممكن و الجود من الموجود وليس الوقوع في فخ الدين إكراماً للضيف .
وفيما يخص ثقافة الطعام يجب التحلي بآداب المائدة وتعليم صغارنا هذه القواعد وقد تضمنت المناهج الدراسية ومن الصف الأول هذه العناوين ولفتت الانتباه إلى موضوع البسملة في بداية الأكل والحمد عند الانتهاء وضرورة مساعدة الأم في تحضير المائدة واجتماع العائلة ،وشرب الماء مصاً لا غباً ،وعدم الأكل مع اللعب وتصغير اللقمة والتوقف قبل إتمام الشبع ،ولا بأس من ترسيخ ثقافة الاقتصاد الغذائي عبر إنجاز مشروع مدرسي يعزز الوعي الصحي ،وهذا يغيب في درامنا بل تساهم في بعض المسلسلات في ترسيخ مفهوم الإسراف والتبذير والمباهاة في المأكل والمشرب والملبس ،إذ تتعدد اللقطات والمشاهد التي تفيض بها الموائد بأطباق الطعام العربية والغربية لشخصين بينما تكفي لوليمة ،وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة التسويق لأطباقنا التقليدية المحلية لأنها منجم فوائد مادية ومعنوية والتشجيع على المؤونة المنزلية لدورها الكبير في التوفير ، عبر برامج إعلامية تثقيفية غذائية يتحدى فيها أخصاصيو التغذية السيل الهائل من الإعلانات التجارية الغذائية والتي تستطيع بتكرارها وطريقة عرضها إقناع المشاهد لشراء المادة .
ختاما …ثقافة الطعام هي الموازنة بين متطلبات الجسد المادية (ما يحتاجه )والروحية (ما يرغب به )والطعام ..ثقافة عنوانها الصحة والسلامة ..
رويدا سليمان
التاريخ: الأربعاء 29-5-2019
الرقم: 16989