في واحدة من المحاضرات التي قدّمها الكاتب نيل غيمان عن فائدة القراءة، ولماذا نقرأ، ذكر: «يستطيع الأدب القصصي أن يُريك عالماً مختلفاً، ويأخذك إلى مكان لم تزره من قبل، كتلك القصص الخيالية التي يأكلون فيها فواكه الحوريات،وما أن تزور ذلك العالم الآخر، فلن تستطيع أن ترضى تمام الرضا عن عالمك الذي نشأت فيه،وعدم الرضا أمر جيد، فإذا كان الناس غير راضين سيغيرون عالمهم ويطورونه ويجعلونه أفضل ومختلفاً»..
وفق غيمان فإن موقف «عدم الرضا» يرتبط ارتباطاً مباشرة بمفعول «القراءة».. وبمدى قدرتها على التغيير..
هل يعني الأمر أن عدم قدرة الناس على تحقيق قيد أنملة من تغيير في حياتها يرجع إلى عدم ممارستها لفعل القراءة..؟
لعله سبب مهم أو ربما هو الأهم.. لكنه ليس الأوحد.
في أحد كتبه وسم الناقد الأدبي هارولد بلوم الأدب «بالمتعة الصعبة».. وتتأتّى صعوبتها من كون الكتب العظيمة قادرة على تقديم النشوة الجمالية قبل أي شيء آخر..
وبين النشوة الجمالية وعدم الرضا تنمو وتتصاعد أشياء عدة في ذات المتلقى..
عبر تراكمية فعل القراءة، وفي اللحظة التي تمارس فيها هذا الفعل، لا يتشكّل موقفك فحسب، ولا رأيك، إنما تتسلل بخفّة إلى مناطق تشكيل كيانك وحياتك.. وبالتالي وعيك.
وهو مفعول لا يكون بممارسة شكلية سطحية..
حالياً تتكرّس حالة «شبه قراءة».. تلك التي ساعد في تصعيدها ما يُنشر على منصات التواصل الاجتماعي.. نمت بنمو ثورة الاتصالات، واستفحال ظاهرة القراءة السريعة لا تصل بصاحبها إلى العمق بل عوّدته على الاكتفاء بتصفحٍ مستعجل.. وهو ما يجعله عالقاً على السطح دون أدنى ملامسة لعمق الأشياء والمعاني.
سمة العصر الاستعجال.. وُصِمنا بلوثة السرعة والعجلة دون أن ندري سبباً حقيقياً لذلك.. نقنع بظاهر الأمور.. ونكتسي أدوات العصر تلك التي تكمن مهارتها بإلهائنا عن تحصيل أي معرفة أصيلة، فعلية..
ما الذي يجعلنا على عجل دائم وكأنما ريح صاعقة ستبرحنا من مكاننا فيما لو تأملنا الأشياء من حولنا ومنحناها وقتها اللازم لتصل بنا إلى العمق..؟!
قراءة هذا العصر تتسم بكونها شكلية.. لن تتمكن من خلق معرفة حقة لدى القارئ.. إنما ضحلة تمنحه فكراً هزيلاً وضحلاً كذلك.. وبالتالي تحصيل قيمة معرفية زائفة.
وبدوره الزيف المعرفي، لن يختلف كثيراً عن مسببات الجهل.. وهو ما يؤدي إلى توهان بوصلة المرء وعدم قدرته على ضبطها وفق الاتجاه الصحيح والصائب في الكثير من مواقف حياته.
«المتعة الصعبة» التي تمنحنا إياها القراءة، تتمثل بأنها تجدد قدرتنا على الخيال والحلم..
وتدفعنا لأن «نستغرق في أحلام اليقظة».. وعلى رأي غيمان، كاتب قصص الأطفال، «كل الحركات السياسية والحركات الشخصية تبدأ بأشخاص تخيلوا طريقة أخرى للوجود».
lamisali25@yahoo.com
لميس علي
التاريخ: الاثنين 8-7-2019
الرقم: 17018