الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
في عام 1790 في كتابه (نقد ملكة الحكم)، تنبأ عمانوئيل كانط بأن لا وجود أبداً لنيوتن «بحزمة من العشب». البيولوجي لا يمكن أن يتوحد أبداً أو يُختزل إلى عدد محدود من القوانين الميكانيكية كما في حالة الفيزياء. هذا «كما يدّعي، هو بسبب أننا لا نستطيع أن نلغي كلياً فكرة الغائية أو التيلولوجي (التوجّه نحو هدف معين) من الأنظمة الحية. السؤال «ما الغاية من؟» ينطبق على الهياكل الحية بطريقة لا تشبه ما يحصل في الفيزياء.
معظم الفلاسفة الأنكلوأمريكيين، ومؤرخو العلوم والثيولوجيون أخطأوا تماماً في فهم هذه الحجة. القصة لديهم تذهب على الشكل التالي: أن كانط ذكر عدم وجود لنيوتن في البيولوجي، بينما تشارلز داروين (1809-1882) وهو نيوتن البيولوجي أكّد أن الاختيار الطبيعي يوضح التكيّف بدون الحاجة إلى غاية، ونحن الآن ورثة البيولوجي الميكانيكي، وأن المعتقدات الدينية هي وحدها لازالت تتحدث عن الغائية.
هناك عدد من الاتجاهات التيلولوجية المختلفة، ولكن الخطاب الأنكلوأمريكي لم يكن واعياً الاّ بالصيغة الأعلى صوتاً. هذه الصيغة هي الادّعاء بأن التكيف في الطبيعة يجب أن يكون نتيجة لمصمم عظيم لأن الحظ وحده لا يمكن أن يفسر الخياشيم في الماء أو الرئتين في اليابسة أو العيون المعقدة أو السوائل التي تسبح بها البكتريا، ولذلك فان العلوم الميكانيكية هي غير تامة. هذه باختصار هي تقاليد الثيولوجيا الطبيعية للغائية (الجدال لصالح إله الطبيعة). هذا الجدال يعود إلى حوار (طيماوس لأفلاطون) لكن أوج ذروته كانت في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. حتى داروين وقبل أن يبدأ رحلته على ظهر السفينة، قرأ وأعجب بالثيولوجي الطبيعي لـ (وليم بالي) الذي شبّه الطبيعة بساعة أنيقة. نظام من الأجزاء يناسب بالضبط أجزاء أخرى وله وظيفة الإبلاغ عن الوقت (ساعة) يفترض مسبقاً وجود ذكاء مصمم (صانع الساعة).
داروين قتل حجة التصميم، نظريته في الاختيار الطبيعي كانت قاتلة. حجته في ذلك، أن تراكم وانتشار السمات الموروثة بواسطة عمليات ميكانيكية للجينات والبروتينات والجيولوجيا والمناخ وغيرها، كلها شكّلت ببطء الكائنات الحية لتناسب بيئتها بحيث بدت كأنها مصممة. وفي اللغة الفلسفية، داروين غيّر الخطة إلى حالة من التكيّف اللاحق. الكتابات الشهيرة في الثيولوجيا الطبيعية تتضمن كتاب دانيال دينيت (فكرة داروين الخطرة)، و كتاب غري كوين (لماذا التطور حقيقي).
لكن هناك قلة من الأصوات لازالت رافضة. إنها ترفض أن داروين قتل الثيولوجيا الطبيعية، واستمروا باعتقادهم فيها مطلقين عليها اسم المصمم الذكي.
الاتجاهات الفكرية الأخرى للغائية تتضمن 1- التيلولوجي الأرسطي 2- الكلية 3 – وحدة الطبيعة 4- الحافز والحيوية 5- التنظيم الداخلي، ومختلف الفروقات داخل كل صنف. تقاليد الثيولوجيا الطبيعية امتزجت مع هذه التقاليد الأخرى. لذا سنحاول غربلة هذه الانواع لنرى إن كان هناك أي شيء منسجم مع الطبيعية الداروينية.
التيلولوجي الأرسطي
اعتقد أرسطو بالهدفية الموجهة في الطبيعة، لأن العمليات الطبيعية دائماً تنكشف باتجاه هدف ما، جوزة البلوط تتطور إلى شجرة بلوط. أيضاً، أجزاء من الكائنات الحية هي في نفس الوقت تعمل لأجل كلّياتها: أنسجة العظام لأجل العظم. الدم لأجل الدورة الدموية، السن لأجل المضغ. أرسطو يشير إلى هذه الغايات والأهداف بالأسباب النهائية، معرّفاً السبب النهائي بـ «الغاية التي من أجلها يتم الشيء».
تيلولوجيا أرسطو يصعب فهمها لأنها أسيء تفسيرها عبر مئات السنين من ثيولوجيا القرون الوسطى. وبعد الثورة العلمية بدأ الناس يفكرون في الطبيعة كماكينة عملاقة، وكما في كل المكائن تحتاج الأهداف لتوضع بواسطة نوع من الذهن المصمم. بدلاً من ذلك، هو اعتقد في التيلولوجي كسمة للطبيعة بنفس الطريقة التي نعتقد بها في الجاذبية، باعتبارها مظهراً للمادة غير شخصي، غير مصمم. كان أرسطو ناقداً للصيغ المبسطة للتطور التي رآها لدى أمبيدوكلس وديموقريطس، لأنه اعتقد أن الأجزاء المادية الصغيرة لا يمكنها أن تنمو مجتمعة إلى أعضاء دائمة ما لم تكن المادة امتلكت وسيلة عضوية صُممت في الطبيعة وفق علاقتها مع الأسباب النهائية. لذا فإن أرسطو اعتبر التيلولوجي كطريقة لوصف الانتظام في التكاثر البيولوجي والسلوك والتشريح. لو أنه عرف الـ DNA يُحتمل أنه غيّر رأيه ليقول «إن المعلومات تغير المادة». لكننا لايزال لدينا سؤال السبب النهائي لأرسطو: كيف أن المادة الشائعة (بالنسبة إليه المادة، بالنسبة إلينا الـ DNA أو الخلايا) أصبحت مختلفة في أحياء وأعضاء متنوعة؟ الـ DNA وحدها لا تكفي لتوضيح هذا، وبعد أن عزلنا الكروموسومات أدركنا أننا نحتاج إلى دراسة التطور بعناية أكبر، لذا نحن في النهاية نكتشف مجموعة الجينات والعمليات البيولوجية التي تنظم كل الـ DNA المحتملة في أعضاء حقيقية وهياكل وسلوكيات. تلك الأسباب التنظيمية لم يستهدفها البيولوجيون إلا مؤخراً وهي كانت تمثل مظاهر الحياة التي سمّاها أرسطو «تيلولوجية».
على خلاف الثيولوجيا الطبيعية، تيلولوجيا أرسطو المنهجية ليست غير منسجمة مع الداروينية. أرسطو اعتقد أنك لا تستطيع عملاً بيولوجياً بالحديث فقط عن دوران الذرات، أنت تحتاج أيضاً إلى اكتشاف لماذا هذا العضو أو السلوك يتناسب مع هيكل الحيوان أو وظيفته أو بيئته. ذلك السؤال يميل إلى سيكولوجيا دينية فقط إذا كنت ثيولوجياً طبيعياً.
الكلية
لو وضعنا جانباً تيلولوجيا أرسطو (ثمرة البلوط تصبح شجرة)، ولنركز الآن على التقاليد الكلية التي خلقها. الكلية في التيلولوجي ترى أن البيولوجي لا يمكن أن يكون اختزالياً بل يجب أن يعترف بالعلاقات السببية للخلايا داخل الأنسجة، داخل الأعضاء، داخل الكائن الحي، داخل البيئة. ميتافيزيقا القرون الوسطى اتّبعت هذا المسار مسمية إياه ميرولوجي (أو دراسة العلاقات بين الأجزاء والكليات) لكنها حرفت التحقيق عن مساره عبر محاولة تقرير أي من هذه المستويات المتداخلة هو الجوهر الحقيقي للشيء. في النهاية، أصبحت الفلسفة التحليلية الأنكلوأمريكية مهتمة جداً بالكلية في القرن العشرين، ولكن فقط كمشكلة منطقية. الفلسفة القارية من جهتها أدمنت ولوقت طويل على الكلية البيولوجية. غوث، كانط وهيغل كانوا متأثرين بعمق بالطريقة التي يبدو فيها الشكل البيولوجي يحكم عمليات فيزياكيميائية مبسطة، وهم حاولوا بمختلف الطرق فهم تنظيم الطبيعة دون اللجوء إلى الثيولوجيا الطبيعية.
لماذا لم ينجح البيولوجي بتحليل كل شيء نزولاً إلى الكيمياء؟ لأننا عادة لا نستطيع فهم العملية البيوكيميائية بدون فهم الغاية منها. نحن نحتاج لمعرفة نتائجها المفيدة للكائن الحي. لا أحد في الكيمياء يدّعي أن الكاربون يفقد إلكترونات لأجل أن يصبح ثاني أوكسيد الكاربون، ولكن في البيولوجي علينا أن نعترف كيف أن سمات معينة أو سلوكاً معيناً هو لبقاء الكائن الحي أو مجموعته. لذا فإن كل العمليات البايوكيميائية التي تنتج من تنفس الأوكسجين هي طريقة لإدارة الكائن الحي لأجل ردود أفعال كيميائية سريعة في خلاياه. التكاثر الجنسي كمثال ثان أيضاً له نتائج الاختيار المفضلة، يزيد لياقة الذرية من خلال التغيير والقوة الهجينية. هذا التأثير التكيفي يوضح لماذا اختيرت الطفرة في التناسل الجنسي ولماذا تتواصل. إنه توضيح تيلولوجي منهجي.
بالنسبة إلى الشخص الكلي، هذه المحاولة لإيجاد «الغاية التي من أجلها يتم الفعل» تنطبق على التراكيب بالإضافة إلى عمليات البيولوجي. لذا فإن ورقة النبتة يستحيل فهمها بدون فهم شيء ما حول الأشجار، وعليه فإن الغرض من الورقة أو القلب هو غير مفهوم بدون نظام دائري، الدماغ ليس له معنى هام إلا في جسم المخلوق الذي يمكنه الحركة. في النهاية هذه الكليات التيلولوجية أشير إليها بالغرض أو الهدف النهائي، واصفاً إياها «الأكثر طبيعية في جميع وظائف الكائنات الحية، بمعنى، كي تجعل شيئاً آخر مثلها».
إن مدرسة الكلية تريدنا أن نتذكر وسط كل النجاحات الواقعية للعلم الاختزالي، صلاحية المستويات العليا للسببية والتوضيح. الكلية هي نوع من التعددية السببية، تذكّر التقريريين الذريين والوراثيين أن الكائنات الحية والإيكولوجيا ليستا فقط نتاجاً ثانوياً مصاحباً لتلك الظاهرة.
حقيقة أم وهم
البيانات التيلولوجية هي ذات قوة توضيحية في البيولوجي، ولكن هل أن توضيحاتها حقيقية أم مضللة؟ كانط جادل بأن العقل لا يستطيع إلا تمديد الهدف نحو البيولوجي، ونحن يجب أن نقبل الادعاءات التيلولوجية المتواضعة (كمبادئ منظمة) للفكر. في هذا المنطق، من الجائز علمياً الادعاء أن عظام الطير الجوفاء هي لغرض الطيران. العقل لا يمكنه التوقف هناك طبقاً لكانط، وطبيعياً سيذهب لتقدير كل النظام بدءاً من الأهداف وصولاً إلى المنطقة التي تعيش بها الكائنات الحية. ولكن بسرعة سيصبح المرء في موقف ساخر: الحشيش لأجل الأبقار، الأبقار لأجل طعام الإنسان وهكذا. كانط يلوم التيلولوجيين المتطرفين الذين يدّعون أن حشرة الناموس تساعد في إيقاظ الإنسان وجعله نشطاً، وأن الدودة الوحيدة تساعد في عملية الهضم في ضحاياها. الخداع في البيولوجي هو إبقاء التيلولوجي المحلي ولكن مع التخلص من المحتوى العالمي والكوني.
يقول كانط، عندما نعمل بيولوجيا نحتاج لإخضاع التفسيرات الفيزياكيميائية البسيطة إلى توضيحات تيلولوجية وظيفية. نحتاج كلا المستويين من التعليل والتوضيح، وإن أحد المستويين لا يختزل الآخر. العديد من البيولوجيين والفلاسفة، اللاحقين لكانط، جادلوا أننا نستطيع أن نتظاهر بأن الأشياء هي لأجل الأهداف، ولكن هذا التظاهر هو فقط مفيد منهجياً ولا يشير إلى أي شيء حقيقي. هل يمكننا الذهاب إلى ما وراء التفسير الخالص نفعياً إلى نوع من التيلولوجي يوضح الكيفية التي تكون بها الأشياء واقعية؟ إذا سألني عالم الأعصاب لماذا أنا أدرس فلسفة، ربما أقول شيئاً مثل «مسارات عصبية معينة نُحتت في دماغي كأن تكون في المناطق الحزامية والجدارية والفص الجبهي التي من السهل أن تحفز بقوة ما لدي من ناقل عصبي للشعور بالسعادة، يدفعني لكي أحب عمل الفلسفة». وعندما يسألني صديقي لماذا أنا أدرس فلسفة، من المحتمل أن أقول شيئاً مثل «لغرض حل ألغاز مفاهيمية والتفكير في مواد ممتعة تشبع رغباتي العميقة». وعندما يسألني مدير الكلية نفس السؤال، أنا ربما أقول شيئاًَ ما مثل «الفلسفة تحسّن التفكير النقدي وتجعل الطلاب أحسن مواطنين للديمقراطية». هذه التفسيرات ليست في تصادم مع بعضها. إنها جميعها منسجمة وصحيحة. ونفس الشيء، إذا كان الوراثيون يعطون تفسيراً جزيئياً للاختلافات في لون جلد الإنسان، والبيولوجيون التطوريون يعطون تفسيراً تكييفياً للون الجلد فهم لا يتنافسون ليعطوا التوضيح الصحيح. هنا ثلاثة تفسيرات مختلفة للون الجلد كلها منسجمة وصحيحة:
أولاً: التفسير الميكانيكي الخالص للتغيرات الصغيرة في مجموعة هورمونات MC1R الذي يقول لنا كيف أن تركيز الميلانين ينتج جلداً داكناً أو خفيفاً.
ثانياً: الشخص الذي يعيش في منطقة كثيفة الشمس سوف يعيش أفضل إذا كان جلده أسود لأن الإشعاع المسرطن UV-B سوف يُغلق أمامه الطريق بفعل زيادة صبغة الميلانين.
ثالثاً: قبل مليون و200 ألف سنة أي بعد 300 ألف سنة من فقدان أسلافنا لشعر الجسم، بدأت مجموعة من المهاجرين ضغوطاً اختيارية بيئية جديدة. الجلد الفاتح تطور في المناطق قليلة الشمس مما يسمح بإنتاج فيتامين D الضروري، بينما تطور جلد داكن لدى سكان المناطق المشمسة.
إن التفسير البيوكيميائي الأول ربما يعمل أفضل بدون تيلولوجي، لكن الاثنين الآخرين هما تفسيران تكيّفيان وتيلولوجيان بقوة، ليس بمعنى أن خلايا الجلد تتوقع الأهداف التي تصلها في النهاية وإنما بمعنى أن توزيع واستمرارية هذه الظواهر وجيناتها يصبح لها معنى فقط إذا كانت «لأجل» البقاء.
وحدة الطبيعة
اعترف كانط أن الذهن الإنساني لا يستطيع تقدير الهدف في الطبيعة. دراسة وثيقة لموقفه تكشف عن خيار تيلولوجي مختلف قليلاً. بالإضافة إلى التيلولوجي الأداتي الذي يسعى لربط هياكل معينة إلى الوظائف (السن الحاد لآكلي اللحوم، لون الجلد إلى البيئة الشمسية، الغدد العرقية إلى التنظيم الحراري)، نحن يجب أن نفترض، كما يرى كانط، وجود الكثير من التيلولوجي العالمي في كل الطبيعة لكي نؤسس علوماً في المقام الأول. نحتاج للتحرك بعناية هنا، لأن هذه القضية يساء فهمها باستمرار من جانب كلا الفريقين أعداء وأصدقاء التيلولوجي. الجدال هو: كيف يمكننا توقّع أن تعطي الطبيعة لنا أجوبة لأسئلتنا ما لم تكن هناك بعض المظاهر العقلية والمنطقية في الطبيعة يمكن تفسيرها في أذهاننا العقلية؟ أي يمكننا القول إن العلم يفترض بعض التناسب بين أذهاننا العقلية وهيكل الطبيعة. وإلا فإن الأول لا يمكنه استيعاب الأخير. هذا «التوقع للتناسب» يوحّد كل الطبيعة في مجال واحد للاستكشاف الممكن. كانط يقترح أيضاً أن «مبدأ الهدفية» الشمولي أو – توقّع أننا سنحصل أجوبة على أسئلة «ما الغاية من» حول العالم الطبيعي – يشكل هذه الوحدة في الطبيعة، ويقول «نحن يجب بالضرورة أن نفترض أن هناك مثل هذه الوحدة حتى لو لم نستوعبها أو لم نكن قادرين على إثباتها»(نقد ملكة الحكم، مطبوعات دوفر، ص 15).
هذه الأطروحة ملفتة. افتراض هذه الوحدة في الطبيعة هو ضروري لنا لكي نستمر بعمل العلوم. لكن الفرضية ستكون دائماً غامضة تفتقر إلى القوة التنبؤية، وغير قادرة على الإثبات. في الحقيقة إن أكثر ما يقوله كانط حول محتوى الافتراض هو «هناك خضوع في الطبيعة للأجناس والأنواع الحية يمكن فهمه من جانبنا»، مضيفاً أن هناك «انسجاماً في الطبيعة مع قدرتنا الإدراكية»(نفس المصدر، ص 16). إن المحصلة الهامة من مفهوم وحدة الطبيعة هذا هو أنه ليس حقاً حول الطبيعة. بالنسبة إلى كانط، بناء الطبيعة القابل للفهم هو وظيفة لأذهاننا. إذا كان كانط صائباً، عندئذ فإن رؤية الطبيعة كهادفة، على الأقل في هذا المدى، تكون بُنيت في قدراتنا الإدراكية.
الحافز والحيوية
سبينوزا (1632-1677) وصف الطبيعة بعبارات ميكانيكية، لكنه اعترف أن الكائنات الحية فعلاً تشترك بنزعة نحو هدف موجّه، إنها تكافح لتعيش. هو سمى هذا المبدأ المنشط للأنظمة الحية بالكفاح أو الحافز conatus، واعتبره جوهر جميع المخلوقات. إنه لا يشبه التيلولوجي لدى الثيولوجيين الطبيعيين، لكنه اعتراف بأن طبيعة المخلوقات لديها مبدأ ضروري موجّه نحو هدف فيها، بحيث لا يمكن فهمه بالسببية الخالصة لكرة البليارد.
لدى بعض المنظرين اللاحقين، أصبح الحافز قوة ميتافيزيقية سحرية. بعد سبينوزا، بدا كانط يعتقد أن «القوة التكوينية» عملت داخل المادة لتصنع ما يبدو معجزة في تكاثر الحيوان. العديد من علماء الأجنة في القرن التاسع عشر أيضاً افترضوا وجود قوة «حياة» حيوية لأنهم لا يستطيعون تصوّر كيف أن السائل الثقيل العضوي غير المختلف يصبح ببطء جنيناً. فيزياء الحركة لم تتمكن من تحويل الرخو غير المركب إلى أجزاء فاعلة عالية التركيب وكليات متكاملة، لذا فإن الجنين إما أن يكون اُتقن بالكامل داخل الأم ثم نما ليصبح أكبر حجماً عبر التغذية، أو أنه كان عديم الشكل ثم بالتعاقب اتخذ شكلاً بواسطة القوة الحيوية للخلق المتوالي.
أفكار المذهب الحيوي كانت مرغوبة جداً حتى بعد الثورة الداروينية. فكرة القوة اللامرئية الغامضة التي ترشد الأجنة الحيوانية كانت منسجمة لحل أصل لغز الحياة أيضاً. حاول داروين إيجاد استبدال ميكانيكي للقوة الحيوية لكن ذلك لم يثبت. أحد أشهر علماء الأجنة هانس دريش (1867-1941) عرض حيوية تجريبية مستخدماً دليلاً بأنه لا يهم كم مقدار الضرر الذي أحدثه في البيضة الملقحة للحيوان الفقري، لكن العملية تبقى مستمرة كما لو أن قوة خارجية غير مرئية ترشدها.
الوراثة الحديثة وعلم الخلايا الجذعية أوضحا لنا لغز التطور الرحمي. غير أن الأسئلة البديهية لأفكار المذهب الحيوي والحافز لاتزال بلا إجابة في البيولوجيا الحديثة رغم أن بعض الأعمال التجريبية برزت لتعزل بشكل أفضل وسائل الحافز البيولوجي. فمثلاً، بدلاً من التفكير حول الحافز كسمة لكل الأنظمة الحية، اكتشف علماء الأعصاب اليوم مثل جاك بانكسيب Jaak pankseep شيئاً ما يشبه نظام حوافز على أساس دماغي في الثدييات: في نفس الطريقة التي تمتلك بها جميع الفقريات نظام خوف، هي أيضاً منشغلة في البحث عن سلوك، وأخيراً عزل علماء الاعصاب الدافع التحفيزي الأساسي الذي يميز البحث عن سلوكيات متنوعة (الصيد، بحث عن طعام، إنجاب). وبلغة واضحة نحن نسميها رغبة. إنها عادة تُصنف مع العواطف، لكنها في الحقيقة عاطفة متعالية، نظام تحفيزي يستخدمه الكائن الحي لكي يجد ويستغل الموارد في بيئته. إنه يحفز الثدييات لمتابعة المتعة أو القناعة، لكنه ليس تماماً مثل المتعة. إنه ذلك النمو، الإحساس المكثف بالانتباه العالي وزيادة الشعور بالتوقّع كما لو أنك على وشك أن تخدش حكة قوية.
التنظيم الذاتي Autopoiesis
قبل الثورة الداروينية لاحظ الناس غموضاً لا مفر منه في خاصية التنظيم الذاتي للمادة (هذه الخاصية في الكائن الحي تسمح له بإدامة نفسه وتجديدها عبر تنظيم مكوناته وحماية حدوده). صحيح أن الظروف البيئية تتخلص من أو تغيّر الكائنات الحية والمجموعات السكانية عبر سمات مؤذية، ولكن هل نحتاج إلى علم أفضل بواسطته تأتي تلك الكائنات الحية إلى الوجود في المقام الأول؟ بدءاً من خطط الجسم إلى الدماغ، تتبلور المادة إلى تراكيب مكررة. هل نحتاج إلى علم أفضل من الشكل أو التنظيم الذاتي نفسه لكي نفهم كيف يحدث هذا؟
العديد من المفكرين، مثل صديق داروين (ريتشارد أوين) أو الأمريكي الطبيعي (لويس أغازيس)، اعتقدوا أن تراكيب الحيوانات الفقرية التي نشترك بها مع الكلاب والأسماك هي أنموذج أصلي أو بمثابة الفكرة المهيمنة التي زُرعت في الطبيعة. عندئذ سيعمل التكيف والاختيار الطبيعي لأجل استمرارية التغيرات البيولوجية. هذه التأملات لم تعد ذات احترام علمي لكنها تبقى افتراضاً مرغوباً للتطوريين المؤمنين. غير أن سؤال التنظيم لايزال لا يتناسب بالضبط مع الداروينية الجديدة. بعض مفكري القرن العشرين الأذكياء مثل دارسي ثومسن وستيفن غاي غولد و ستيوارت كوفمان ووليم ومسات اقترحوا طرقاً بأن الأنظمة المادية تميل نحو هياكل معينة فاعلة. لا شيء هناك غامض حول هذا. بدلاً من ذلك إنها محاولة للتركيز الدقيق على المنطق أو آليات المستوى المتوسط بين الوراثيات واختيار الأعضاء الحية. كوفمان مثلاً، بيّن أن أنظمة المواد الديناميكية سوف تلتحم حول حالات يمكن التنبؤ بها طبقاً لقواعد منطقية. هو وآخرون اقترحوا أن بعض «علوم التنظيم الذاتي» سوف تحتاج للارتباط بالاختيار الطبيعي بإعطائنا فهماً أكثر دقة عن تطور الشكل البيولوجي. وكما في المذهب الحيوي من قبل، بعض هذه البحوث تسعى لمعالجة تطور التعقيدية في الأجنة الحيوانية أو في أصل الحياة. «علم التنظيم الذاتي» هذا يحاول فهم الطريقة التي تنتظم بها العمليات الجزئية بواسطة حالات كلية نسبية بمرور الزمن. أصبح من المألوف علمياً افتراض طبيعية مادية – كل شيء يحدث خلال عمليات فيزيائية- لكنه مع ذلك ينحدر من تقاليد تيلولوجية قديمة.
التاريخ: الثلاثاء9-7-2019
رقم العدد : 16019