الملحق الثقافي:أحمد جميل الحسن:
لا أدري ما الذي قادني إلى ذلك المكان، في تلك الليلة الممطرة الموحشة، وأنا الذي أقسمت ألاّ أدوسه أبداً، ما دامت عطاف تتردد عليه، وتجالس الصحاب، وتغدق عليهم من نكاتها البذيئة، التي يطربون لسماعها، وتضع ساقيها فوق بعضهما، وتكلم الحضور باستعلاء، وكأنها مدير دائرة، وهم موظفون لديها.
قالت بتهكم عندما دخلت: «شرّف الأفندي».
جلست على مقعد متطرف، بعد أن صافحت الأصدقاء، نظرتْ إلي شزراً، ثم أشاحت وجهها، وأكملت حديثها عن آخر قصة كتَبَتْها.
كان المكان عبارة عن غرفة كبيرة، في بيت أحد الأصدقاء، نجتمع فيه؛ لنتداول أمور الحياة، والكتابة، التي كلنا متورطون بها، جلبها إلى هذه السهرة الأستاذ عوض، الذي تعرف إليها في أحد المراكز الثقافية، وعرف أنها مهتمة بالأدب، لها بعض المحاولات في كتابة القصص.
ارتفعت الأصوات مرحبة بوصلة غنائية، ستغنيها عطاف، فهي علاوة عن أنها تكتب؛ تغني أيضاً, وتقدمت ذات مرّة إلى التلفزيون في مسابقة غنائية، ولم تدعها لجنة الاستماع إلى إكمال وصلتها، على أن يتصلوا بها لاحقاً، ومازالت تنتظر هاتفهم.
صدحت حنجرتها بموال «يا ليل»، تمايل الأصدقاء على وقع صوتها، وكل يكيل لها المديح كي يكسب ودّها، فهي المرأة الوحيدة التي كانت في تلك السهرة.
أبرقت السماء، ثم قصف الرعد، فانهمر المطر، الذي كان صوت هطوله يسمع جلياً على بلور النافذة، بعد أن كفت عطاف عن الغناء.
حرّك المطر شيئاً دفيناً في داخلي، وقادني إلى الروشة في بيروت، عندما كنت أدرس في جامعتها، جلست على حافة صخرة صغيرة، تطل على البحر، وكانت تجلس قبالتي مباشرةً، تواعدنا بعد أن انتهينا من الامتحانات، وعلى الرغم من أن المطر كان يتساقط رذاذاً، إلا أن تشرين الأول ما زال دافئاً، فستانها البرتقالي الموشح بالورود يصل إلى نصف ساقيها البيضاوين، وتفرد شعرها الأشقر على كتفيها، فيلمع بريق عينيها الزرقاوين، همَسَت: هل تحب البحر؟ ابتسمتُ ولم أجب. تابعتْ: نجاحنا أكيد هذه السنة. أومأتُ برأسي إيجاباً. قالت: ألا تتكلم؟ أجبتها: أستمع.
الأمواج الخفيفة تتلاطم على الصخور، وكأنها في صراع أبدي معها، رحلتْ عيناي جنوباً، حيث شواطئ ومدن بعيدة، أحن لرؤيتها، فقد خرجت منها منذ كان عمري عشر سنوات.
رذاذ المطر بلل شعرها، فبدت حبيبات المطر المتفرقة كأنها بعناية إلهية على خصلاتها، تبسمتْ عندما وجدتني أسرح في وجهها، ومدتْ يدها إلى خدّي، لكنني رجعت برأسي إلى الخلف، استغربتْ واحمر وجهها، فازداد جمالاً.
بادرتها وأنا أقف على مفترق صعب، وفي داخلي صراع، كلما حاولت أن أتخلص منه ينقض علي، ويعيث بخلايا عقلي، أهرب من نفسي، أحاول أن ألتجئ إلى قلبي، فيسبقني إليه. تائه، تتقاذف الأمواج مركبي الهش الهرم، ولا أدري في أي شاطئ يرسو.
مفاتيح سيارتها تلوح بيدها، والذهب يلمع على صدرها، وأسمع رنينه كلما حرّكت معصميها. دعتني ذات يوم؛ بعد امتحان مادة علم الإجرام والعقاب، لاحتساء فنجان من القهوة، في فندق فخم يطل على البحر، ارتشفنا القهوة، ونحن نتجاذب الحديث عن الجامعة، عرفتُ من خلال حديثها، أنها مديرة مدرسة للمرحلة الابتدائية، وأنها تدرس الحقوق، بناء على رغبة أبيها المحامي الكبير.
دندنت: «يا قلبي لو طاب لي زماني»، سألتني هل تحبها؟ قلت أحب «ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عزّ اللقاء..»، جحظتْ عيناها، فاشتد لمعان بريقها: «لماذا هذه الأغنية بالذات؟»، لم أجب، وأشحت بوجهي.
بانت الحدة على محيّاها: «لماذا كلما أسألك لا تجيب، أو تشيح بوجهك؟ لماذا إذاً خرجنا معاً، وجلسنا في هذا المكان؟».
كان الوقت قبيل الغروب بقليل، أشرت إلى البحر، هَمَسْتُ: «إنه مكمن أسرار وهو ملاذٌ، للسعداء والتعساء، كل يبث شجونه ويشتكي همّه، ألا تشاهدين أمواجه عندما تكون هادئة، كيف تقبّل الصخر بحنان، وعندما تغضب تلطمها دونما أي رحمة».
سألتها: هل تجيدين السباحة؟ لم تجب وبقيتْ تحدّق بي ثم أشاحت بوجهها عنّي، وسرحت بعيداً في طيات الماء المتكسرة على الصخور.
أريد أن أقبّلها، أغازلها، أهمس لها بأعذب كلمات الحب، لكن…
نجحنا كلانا في تلك السنة. عدت إلى دمشق وعادت هي أيضاً. تبادلنا العناوين وكتبت لي رقم هاتف مدرستها.
زارتني في البيت، استغربَتْ وجود امرأة تحمل على يديها طفلة صغيرة، سألتني عنها. وقبل أن أجيبها كانت الصغيرة تناديني: «بابا بابا».
دهشتْ! تساءلت نظراتها: أحقاً ما سمعت؟ أومأتُ إيجاباً. وضعتْ يدها على عينيها: «لن أسامحك أبداً»، همستُ: ألا تسامحينني خير من أن تحقدي عليّ وتلعنيني.
افترقنا، اجتيحت بيروت، ولم أعد أستطيع الذهاب إليها، وإِكمال تعليمي بحكم جنسيتي.
استفقت على صوت عطاف: يا بيك، يا أفندي أصبحنا بعد منتصف الليل، أريد أن توصلني إلى البيت.
وقبل أن أوافق أو أرفض، تأبطتني وسحبتني خارج الغرفة. أوقفت سيارة تكسي، ظننتُ أنها تريد أن تعود إلى البيت بسرعة، هرباً من المطر، لكنّي فوجئت عندما قالت للسائق إلى ساحة المرجة، ثم وجّهتْ كلامها إلي: لا تفوّت هذه الليلة، أريد أن أتمشى في قلب دمشق.
بدأت الظنون تراودني، ماذا يدور في خلد هذه المرأة؟ وماذا تريد بعد منتصف الليل؟ وهي تعرف أنني متزوج. أوقفتْ السائق أمام مبنى ضخم وشاهق، نقدته أجره، ونزلت على عجل من السيارة، صارخة: يا ألله ما أجمل هذه الليلة.
تتقافز مبتهجة تحت المطر كالأطفال، تسبقني ثم تعود وتجانبني، بغتة أوقفتْ سيارة، وشدّتني بسرعة داخل السيارة، وطلبتْ من السائق التوجه إلى قاسيون، استغربتُ، وحاولتُ النزول، أجلستني بقوة، وأغلقت فمي بيدها، لاحظتُ في عينيها براءة لم أعهدها من قبل، وفرحاً طفولياً ممزوجاً بأسى نسجته هموم الحياة، تحدقُ من نافذة السيارة، وتحاول أن تقفز تحت المطر، مدّتْ يدها خارج النافذة؛ بينما يدها الأخرى ما تزال على فمي، استسلمت للموقف، بل إنني استعذبته، وحاولت أن أقرأ ملامح الأنثى فيها جيداً، شيء ما فيها يشبه تلك التي كانت معي في بيروت، تأملتها جيداً، وجدتُ البريق نفسه في عينيها، مع اختلاف لونيهما.
وصلنا إلى قمة الجبل، كان خالياً تقريباً، وقفتْ تنظر إلى دمشق بسحر أضوائها، وقفتُ جانبها، خف هطول المطر، وأصبح رذاذاً، حاولتْ أن تقبلني أبعدتها عني، وأخذتْ عيناي تجولان في المكان، دهشتُ عندما رأيت امرأة تجلس على صخرة صغيرة، وتلبس فستاناً برتقالياً، موشحاً بالورود، يصل إلى نصف ساقيها، وقد ابتل كليةً شعرُها الأشقر، وقبالتها رجل خمسيني يستمع إلى غنائها.
التاريخ: الثلاثاء15-10-2019
رقم العدد : 969