الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
يعرّف كتاب (الرسم والطباعة اليدويّة عن الحجر/ الليتوغرافي) لمؤلفه الدكتور علي الخالد (أستاذ مادة الحفر بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق) بإحدى أبرز تقانات فن الحفر المطبوع الذي يُعتبر واحداً من أركان الفنون التشكيليّة الرئيسة، وهي تقنية تعتمد نوعاً خاصاً من الحجر وسيلةً لإنجاز نسخة المحفورة المطبوعة. اكتشف هذا الحجر المركب من الكلس والحموض الكربونيّة في ميونخ بألمانيا، ثم أُعيد اكتشافه في إنكلترا وفرنسا وايطاليا ومؤخراً في روسيا، وذلك في أماكن تواجد الكلس الكربوني.
لهذه الحجارة مواصفات خاصة كي تكون مناسبة للرسم فوقها ومن ثم طباعة هذه الرسوم بوساطة مكابس وأحبار خاصة. تُعرف هذه التقنية باصطلاح (الليتوغرافي) وهي من أهم تقانات فن الحفر المطبوع الذي لا يزال خجول الحضور في الحيوات التشكيليّة العربيّة المعاصرة لأسباب كثيرة منها: اقتصاره (لمدة طويلة) على اللونين الأبيض والأسود ومشتقاتهما من الرماديات (دخلته مؤخراً الألوان مع تقنية الشاشة الحريريّة وغيرها) وحاجته إلى مكان وعُدد ومستلزمات أخرى كثيرة، ليس بمقدور أي حفار تأمينها، وعدم استساغة العين العربيّة له، خلافاً للوحة الزيتيّة أو المائية المفعمة بالألوان الزاهية.
فن الحفر المطبوع
يدلف الكتاب إلى عالم فن الحفر المطبوع بوساطة الحجر (الليتوغرافي) عبر مقدمة تاريخيّة تُشير إلى أن فكرة اختراع الطباعة نشأت عندما شعر الذين كانوا يخطون الكتب يدوياً، بثقل الزمن وطوله عليهم لإنجاز نسخة واحدة من الكتاب. وفي القرن التاسع الميلادي، اخترع الصينيون ألواح الطباعة التي تُعرف بـ (الكليشات) المنفذة من الخشب، ثم من الحجر، ثم من الصلصال، وصولاً إلى اختراع الألماني (جوهان غوتنبرغ) العام 1440 للألواح الرصاصيّة المحفورة، باستخدام المكبس. وبالتدريج تطوّرت الطباعة من يدويّة إلى آليّة، إلى إلكترونيّة. وبتطورها تطور فن الحفر المطبوع الذي تكمن قيمته الحقيقيّة في قيام الفنان الحفّار بإنجاز أعماله الفنيّة يدوياً، وبإشراف مباشر من قبله.
دعي هذا الفن بالحفر والرسم المطبوع، وبالتصميم الطباعي، وبفن (الغرافيك) أو الرسوم المطبوعة، لكن كلمة (طباعة) غير كافية للتعريف بهذا النوع من الفن التشكيلي. فكلمة حفر وطباعة ليست إلا مرحلة من مراحل عديدة يمر فيها هذا الفن قبل أن يُنجز.
خصائص فريدة
يبين الكتاب الخصائص الفريدة التي يتميز بها فن الحفر المطبوع عن سائر الفنون التشكيليّة الأخرى، حيث شارك في بث الدعاية الاجتماعيّة والدينيّة والتجاريّة، وكان جنباً إلى جنب مع العلوم التقنيّة في ظروف لم تكن المطبعة في الخدمة العامة بعد.
من جانب آخر، يُشير الكتاب إلى أن لفن الحفر أهمية تشكيليّة خاصة لجهة الاعتبارات الجماليّة، وذلك لمقدرته التعبيريّة، والبساطة التي تحقق الاتصال بين الفنان والجمهور، إلى جانب أن لفن الحفر ميزة الانتشار والوصول إلى الجماهير العريضة، وهو سهل الاقتناء، الأمر الذي جعله يأخذ مكاناً مرموقاً بين أنواع الفنون التشكيليّة. كما أخذ طريقه إلى الصحافة وفنون الكتاب والإعلان والإعلام والدعاية والرسوم المتحركة وبعض الصناعات، ووقف إلى جانب البندقية خلال الثورات السياسية والانتفاضات الوطنيّة في بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينيّة والشرق. واللافت أن معظم فناني العالم، قاموا بتأسيس ركنٍ دافئ في محترفاتهم (على اختلاف اختصاصاتهم) لهذا الفن أمثال: بيكاسو، براك، روو، دوران، ميرو، غويا، رامبرانت، لوتريك، رونوار، شاغال، هنري مور… وغيرهم. وعلى الرغم من تطور الآلة، وتقدم تقانات الطباعة، وإدخال الحاسوب إلى عالم فن الحفر، إلا أن المنفذ منه يدوياً من قبل الفنان، يبقى مرغوباً ومطلوباً، لما للطرق اليدويّة التقليديّة من إبداع وحس فردي.
تقانات الطباعة الحجريّة
يُشير الكتاب إلى أن من أهم مراحل العمل في مجال الطباعة الحجريّة، هو تجهيز السطح المراد العمل عليه، ذلك لأن السطح المجهز بشكل مرضي، يدعو للتفاؤل بإنجاز عمل جيد. لهذا أدت محاولات (سينفلدر) الحثيثة للوصول إلى فن طباعة متقدم، وقيامه بتجارب متتالية، وبحوث متوالية، نتائج مهمة على هذا الصعيد. فقد بدأ العمل على الحجر بادئ ذي بدء، بالحفر البارز، والحفر الغائر، وذلك بأن تُغطى مساحات وكتابات وخطوط بمادة الشحم والدهن القوي، ثم القيام بحفر ما يحيط بها بمادة حمض الكبريت والآزوت، وحمض الاكوافورتس وغيرها من الحموض التي لها صفة تآكل الحجر وتفتيته. إلا أن ذلك كان يواجه صعوبات عديدة. فالحمض لا يحفر بشكل عمودي فقط، ما سبب بتحطم بعض الخطوط والنقاط، وغيّر معالم الأشكال والعناصر المشكّلة للمحفورة، ناهيك عن أن الضغط بوساطة المكبس، كان يحتاج إلى طرق مختلفة. أما كلمة (ليتوغرافي) فهي تركيب مؤلف من كلمتين قديمتين وردتا في اللغة اليونانيّة هما: الحجر LITH0S والرسم العميق، أو الحفر على سطح ما GRAPHIQUE.
معلومات مُبسطة
(يكون البحث أحياناً، وخاصةً لدى الفنان، نوع من حب العمل، وعشق لأداته التعبيريّة التي تُعينه على التعبير عن رؤاه وأحلامه الفنيّة، ورغبة في استمرارها بين الأجيال القادمة): بهذه الكلمات، قدم الفنان الراحل نذير نبعة لكتاب الخالد، مؤكداً بأنه بحث شامل حول فن الرسم والطباعة اليدويّة عن الحجر (الليتوغرافي) وبأسلوب علمي شيق وموثّق، يعتمد الأسس العلميّة السليمة. ومكتبتنا الفنيّة تحتاج إلى مثل هذا البحث العلمي الذي لا يساهم فقط في نقل علم وتقانات وطرائق هذه الوسيلة الفنيّة التعبيريّة، بل يضيف إليها الخبرة مما تعلمه من أساتذته الكبار، وزملائه ينتمون إلى جنسيات عالميّة مختلفة. أي أنه يضيف لها تجاربه الشخصيّة، مبسطاً كل هذه المعلومات بلغة واضحة، سليمة، وسلسة، لا يحتاج قارئها لأي شرح لكي يعمل بما يصله خلالها من معلومات.
إنجاز حقيقي
أما الدكتور عبد المنان شما، فيرى بأن ما قام به الدكتور علي الخالد، من دراسة وبحث حول موضوع الرسم والطباعة الحجريّة (الليتوغرافي) يعتبر إنجازاً حقيقياً على المستوى الشخصي والفني والعلمي في هذا المجال. فقد لخّص بأسلوب شيق، وبلغة عربيّة سليمة وسلسة، دراساته وتجاربه وممارساته الفنيّة التي اكتسبها وعشقها عندما كان طالباً في قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق أواخر ستينيّات القرن الماضي، وكذلك عندما تابع دراساته العليا في نفس الاختصاص، لصالح جامعة دمشق، في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس، على يد أساتذة متخصصين كبار، إضافة إلى دأبه وممارسته الفنيّة التي استمرت حتى الآن.
ويُشير شما إلى أن مزاولة الفنان الحفّار علي الخالد للبحث العلمي والفني، والغوص في أدق تفاصيل مهنته، معززة بلقاءاته وباحتكاكه المباشر، على مدى نحو نصف قرن من الزمن، يُعطي بحثه المعزز بالصور التوضيحيّة اللازمة، قيمة علميّة وفنيّة كبيرة، كما وتعني الشيء الكثير بالنسبة إليه وإلى جميع الدارسين في المستقبل، نظراً لافتقار مكتبتنا الفنيّة العربيّة إلى مثل هذه الأبحاث المتخصصة والشاملة.
بقي أن نشير إلى أن الكتاب وضع بلغة مبسطة، من قبل فنان أكاديمي مختص بفن الحفر المطبوع، وبالتحديد بتقنية الطباعة الحجريّة (الليتوغرافي) وهي الموضوع الرئيس للكتاب الذي يقدم معلومات كافية لوضع القارئ المختص وغير المختص، في الإطار العام لهذه التقنية، فهو يبحث في طبيعة حجر الطباعة، وطريقة تحضيره لهذه المهمة، والرسم فوقه، وأدوات الرسم، ومراحل إعداده للطباعة، وأنواع الورق والمكابس المستخدمة فيه، ومن ثم عملية تصنيف الطباعة، وصولاً إلى الطباعة الملونة وأثر الألوان في حياتنا اليوميّة.
التاريخ: الثلاثاء15-10-2019
رقم العدد : 969