مازال الشاعر والمفكر السوري أدونيس يخلخل المشهد الثقافي والفكري, بما يطرحه من آراء حولهما, يثير الزوابع ويضرم النار في هشيم ما, ليس حبا بالنار وحرق ما هو موجود, لا, بل من أجل أن ينمو الأصيل في هذا المشهد الذي علاه الغبار, وتكدس الشوك فوق أزاهيره, لهذا كله, يضرم أعواد الثقاب, لعلها تفعل شيئا ما, وما بين إضرام العود والاشتعال تبدو المسافة قصيرة جدا.
فما إن يفعل ذلك حتى تتوالى ردود الفعل, تناقش, تؤيد, تصفق, تكفر, بكل الأحوال يثير حراكا مهما, جديد أدونيس الصادر حديثا عن دار التكوين بدمشق, كتاب: الكتاب, الخطاب, الحجاب, من المقدمة يبدو الحفر المعرفي عميقا بكل الأخاديد التي اجترحها, وأراد أن تكون على طاولة التشريح, للوصول إلى الدواء, يرى أدونيس أن ثقافة التكفير تاريخيا أدت إلى ثقافة الامتناع عن التفكير, أو إلى ما يمكن أن نسميه بثقافة الاجتناب, اجتناب الأساسي, في كل شيء, في الدين, في الفلسفة, في العلم, في الشعر, في السياسة في الطبيعة, وفي ما وراءها, لا مجال للإنسان في التفكير والمساءلة والكتابة إلا في ما (حلل) وما حلل ليس إلا جزءا يسيرا من جسد العالم, هكذا لايعود الجسد نفسه إلا مجرد مادة للنبذ والإقصاء والحجب.
وفي النص غير الديني لاتكمن خصوصيته بدلالتها العالية في كونه حقيقة بل في كونه (إبداعا) لاتكمن واقعا بل في كونه تخيلا, فلئن كانت هناك حقيقة فهي من الانسان نفسه حرية وابداعاً, وهكذا يبدو أن أخطر ما في النص – الحقيقة أو الحقيقة – النص هو أنه نص جماعة نص أمة, نظام, ويعني هذا أنها محو للذات والفرادة لاتعود الحقيقة تجربة ذاتية وإنما تصبح ملكاً جماعياً.
هذه المدن
تحت هذا العنوان في الكتاب يتحدث ادونيس عن المدن العربية, ويرى أنها مفارقة على الصعيد الانساني الخالص ستجد أفرادا رجالا ونساء يعطون للحياة معناها وللوجود قيمته, غير أنك ستشعر في الوقت ذاته ان هؤلاء الافراد يعيشون على الهامش بشكل أو بآخر قليلا أو حياتهم نضال متواصل مرير ضد البنى السائدة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
وفي هذه المدن ثمة احتفاء بالموت بعض اوساطنا الثقافية لا تتحدث عن الموت إلا بوصفه حكاية جميلة باهرة غالبا ماتكون كما لو ان قتل الانسان كمثل قطاف ثمرة يتم بلذة ومتعة, كأنه الهواء الذي نتنسمه تلقائيا كل يوم من الجزائر الى العراق (موجة الارهاب), عندما لايكون الموت موجودا في ثقافة شعب بوصفه نوعا من تدمير الحياة وتغييبها فإن الحياة نفسها لاتكون في هذه الثقافة عالية وغالية لا تكون انسانية بالدلالة العميقة الخاصة لهذه الكلمة وانما تكون مجرد عادة طبيعية كما هي عند بقية الكائنات, فغياب معنى الموت بتعبير آخرفي فكر الشعب لايعني في التحليل الدقيق الا غيابا لمعنى الحياة.
مرة ثانية اقترح على كتابنا ومفكرينا ان يؤرخوا لهذا الموت العربي اليومي, لعل العرب يدركون معناه, لكي يتمكنوا بدءاً من ذلك من أن يبتكروا معنى لحياتهم ومن ان يحبوا الحياة بوصفها هبة الكون العظمى.
ثقافة الملعب
عنوان آخر ربما نحتاجه بصوت عال جدا,ومن الضرورة بمكان ان يصل إلى صناع الثقافة العربية, ثقافة الملعب, نعم ثقافة الملعب بمعنى آخر الثقافة الزائفة الزائلة, يقول ادونيس: تجابه الثقافة العربية اليوم خطرا هو ان تفرغ شيئا فشيئا من عقلانيتها ومن فكريتها الاهتمام كله موجه الى الفنون البصرية والسمعية, وهي فنون يعزف اصحابها ومتذوقوها بعامة عن الغوص في العمق طلبا للمزيد من الانتشار على السطح وتفضيلا للاستمتاع واللذة على التأمل والاستبصار, يدعم هذا الاهتمام على نحو غير مباشر تأويل معاد للعقل والفكرة وادواتها وبخاصة في جوانبها الالكترونية المهرجانات الموسيقية والغنائية تجعل كثيرا من المدن العربية شبيهة بمسارح الهواء الطلق تعج بالمستهلكين, تضاف اليها اعياد الرياضة بأشكالها المتنوعة هكذا تتحول المدينة الى ملعب يحل شيئاً فشيئاً محل الجامعات والمتاحف والمسارح ومراكز البحوث المعرفية والعلمية ولهذا الملعب جمهوره ويصرف عليه بسخاء, أهي ثقافة الحاجة النفسية والجسدية هذه التي تهيمن اليوم على الجمهور العربي, وتكتب تاريخاً في معزل عن الثقافة الفكرية العقلية, أم هي ثقافة العولمة التي تجعل العالم كله ملعباً واحداً..؟
دائرة الثقافة
التاريخ: الخميس 5-12-2019
الرقم: 17139