الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
لا بد من الإشارة إلى أن اكبر المدافعين فلسفياً عن التسامح في العصر الحديث كان لاجئاً. البروتستانتي بيير بايل Pierre Bayle، هرب من بلده الأصلي فرنسا عام 1681. لقد خسر العديد من أفراد عائلته في عمليات الاضطهاد الكاثوليكي في فرنسا ضد البروتستانت بعد أن ألغى لويس الرابع عشر الحقوق الدينية للبروتستانت عام 1685.
كتابات باير والتي نُسي الكثير منها، كانت قد انتشرت على نطاق واسع في القرن الثامن عشر. وفي أعقاب الهجوم المأساوي على المسلمين في مدينة كرايست تشيرش في نيوزيلاند في مارس الماضي والصعود الواسع للقوى المضادة لليبرالية، نكون في مواجهة أسئلة ملحة حول أسباب وحدود التسامح.
ماذا يقول باير عن التسامح؟
أول خطاب له حول التسامح وهو الخطاب الأكثر راديكالية، ورد في كتابه الذي نُشر عام 1682 بعنوان (مختلف أنواع التفكير حول المذنبات) (1). هو ادّعى أن المجتمع سيحتاج لحماية العقائد الدينية إذا كانت تلك العقائد وبشكل حاسم تصوغ وتحسّن سلوك الناس. لكن التاريخ يبيّن أن هذا ليس هو الموقف. الناس من جميع الأرثودكسيات وأشكال الإيمان لا يتصرفون كما يأمر إيمانهم، بل هم يعرضون نفس السمات الإنسانية: الطموح، الجشع الشديد، الحسد، الرغبة في إيذاء الآخرين، اللاخجل، وجميع الجرائم التي يمكن أن تشبع الرغبات نراها في كل مكان. بايل يشير إلى الحروب الصليبية، وأولئك الذين جرى اعتبارهم أبطالاً من جانب الكثيرين في اليمين المحافظ والمتطرف. هو اعتقد أن هذا دليل على أنه حتى المسيحية، دين الحب، حرضت على تمجيد أكثر الأحداث رعباً على مر التاريخ. يستنتج بايل أن جميع الناس يجب أن يُسامحوا بناءً على الفعل وليس القول. هذا يعني حتى مجتمع الملحدين وبوجود قوانين جيدة يمكن أن يكونوا فضلاء بنفس مقدار مجتمع المؤمنين دينياً.
لماذا أفكاره مثيرة للجدل؟
كتاب بايل سبّب غضباً شديداً، لأن هذا النص الاستثنائي يحتوي على التبرير العلماني الأول للتسامح المتعدد ثقافياً. هو يقوم بهذا عبر التمييز النقدي بين الكرامة الأساسية للفرد وهويته الثقافية والدينية. هو يقول إن عقائد وطقوس كل الناس يجب التسامح معها انطلاقاً من احترام إنسانيتهم الأساسية. هذا التمييز والذي يتفق عليه الجميع اليوم، كان بعيداً عن القبول العالمي. وفي المناخ السياسي الحالي، يبدو أننا نقبل وعلى نحو متزايد فكرة أن مختلف الجماعات تنتقد دائماً فقط خصومها وليس الجانب الذي هي فيه. بالمقابل، ينطلق بايل المسيحي من حجج مسيحية معينة للتسامح، في نفس الوقت الذي ينتقد فيه أفعال وعقائد المسيحيين الآخرين.
كبروتستانتي، يدّعي بايل أنه من الخطأ الجسيم ومن غير المثمر محاولة إجبار الناس على التخلي عن عقائدهم المتشكلة طوعياً حتى لو كانوا ملحدين. هذا يعني إجبارهم للذهاب ضد الضمير الموهب لهم.
حدود التسامح
غير أن بايل يفهم بشكل جيد حدود تبرير التسامح لمختلف العقائد عبر اللجوء إلى ادّعاءات بروتستانتية محددة. حين ناشد حرمة وحصانة ضمير الناس، ذلك خلق له مشكلة خطيرة. هذه المشكلة تجسدت أخيراً بشكل مأساوي في الأحداث التي وقعت في مدينة كرايست تشيرش. متعصبون مثل إرهابيي كرايست تشيرش مؤمنون تماماً بصواب وعدالة فعلهم حتى عندما تستلزم أفعالهم الذبح العشوائي لكل من ينتمي إلى جماعة أخرى. حجة احترام حرية الضمير هي ذاتها تقترح أننا يجب أن نتسامح مع «مضطهدي الضمير». الحجة التي أريد بها حماية الضعفاء بهذه الطريقة تنتهي بالتغاضي عن أكثر المتشددين بغضاً. لمواجهة هذه المحصلة والتأكيد على حدود التسامح، يستخدم بايل أخيراً حجة أخرى والتي ستصبح، من خلال فولتير، أساسية في فترة التنوير. حجة بايل تبدأ من تقديس القبول الليبرالي الما بعد حداثي للاختلافات الثقافية التي يصعب الاتفاق عليها بين الجماعات.
إن التنوع الهائل في المذاهب الدينية في العالم يشير إلى أن لا وجود لجماعة واحدة تستطيع معرفة الحقائق العميقة لظروف الإنسان وبيقين كافٍ لتبرير القمع والنفي أو قتل الآخرين الذين لا يشتركون في عاداتهم وآرائهم. لذا يكتب بايل:
الاختلافات في الآراء تبدو جزءاً لا ينفصل من تعاسة الإنسان. وبما أن فهمه محدود جداً، وقلبه مضطرب، يجب أن نحاول تقليل هذا الشر إلى أضيق الحدود، وبالتأكيد إن الطريقة للقيام بهذا هي عبر التسامح المتبادل لكل منا.
الصعوبة قوة وليست ضعفاً
من خلال أفكار بايل، لم يكن التسامح «كإباحة عمل أي شيء» شأناً ضعيفاً. أولئك الذين يؤمنون أنهم مؤهلون ليكونوا غير متسامحين جداً، هم مقتنعون بعمق أنهم مع حماستهم المفرطة هذه، يجب ألا يُتسامح معهم. بالنسبة إلى بايل، مثل هؤلاء الناس يدّعون أن مذهبهم هو الحقيقة الصادقة الوحيدة رغم النواقص والعيوب في الفهم الإنساني، ورغم وجود العديد من المذاهب المختلفة في العالم. هم يعتقدون أن لديهم تفوقاً أخلاقياً يتم تبريره فقط عبر حب الذات والقوة. إن التسامح يتطلب قوة صعبة. إذا كان بايل صائباً، فإن احترام الاختلافات قبل كل شيء يعتمد على الاعتراف بنواقصنا، وهي نواقص نشترك بها ككائنات بشرية متناهية مع الآخرين الذين من السهل دائماً رفضهم أو شيطنتهم أو وصفهم كغرباء. هذا بالطبع ليس بالشيء السهل ولا هو بالمغري.
…..
الهوامش
(1) كتاب باير بايل (مختلف أنواع التفكير حول حدوث المذنبات) Various thinking on the occasion of a comet صدرت ترجمته في شهر مايو 2000 في 271 صفحة عن دار مطبوعات جامعة نيويورك. هذا الكتاب جعل من الصعب على مناصري الأديان اليوم افتراض أن الدين هو الطريق الوحيد للأخلاق. الكتاب يتجاهل تأثير الخرافة في الحياة السياسية، كما أنه وضع الأرضية لفصل الكنيسة عن الدولة. في الكتاب يعالج بايل الادّعاء بأن المذنبات التي تسطع في السماء هي سبب فعّال لما يحصل من كوارث على الأرض أو أنها إشارة لها. خصص بايل 15 قسماً من الكتاب معتمداً أساساً فلسفياً لإثبات أن المذنبات لا يمكن أن تكون سبباً مباشراً للمصائب، ثم لجأ لاحقاً إلى إيمان مقبول ثيولوجياً ولكن ليس فلسفياً بأن رغبة الإنسان حرة: «إنها مسألة إيمان أن حرية الإنسان تتجاوز تأثير النجوم وأنه لا خاصية فيزيائية ضرورية تقود تلك النجوم لما هو شر»(ص58) بما أن الرغبة الحرة تشير إلى أننا وحدنا مسؤولون عن هكذا شرور في العالم كالحروب والفتن والقتل، وطالما لا العقل ولا الوحي يخبرانا عن أي ارتباط ضروري بين المذنبات وهذه الكوارث، فلا بد من الاستنتاج بعدم وجود أي ربط بين الاثنين.
التاريخ: الثلاثاء10-12-2019
رقم العدد : 977