يقول أدونيس: (لا يمكن أن تخلق ثقافة عربية ثورية إلا بلغة ثوورية) ويذهب أدونيس في مقصده لثورية اللغة بمعنى أن تمتلك الكلمة، والكتابة بالمعنى الأشمل، أن تمتلك القوة، قوة الإبداع والتغيير، فتضع المتلقي أو تدفع به تلقائياً إلى مناخات البحث والسؤال والتأمل.
فهل أدت اللغة الإبداعية دورها المأمول؟
لعل الذي حصل شبه ارتداد، أصاب المتلقي في معظم الحالات لأن (اللغة الثورية) التي أرادها أدونيس ذهبت بالمتلقي – غالباً – إلى الحيرة والانكفاء، والارتياب من القصيدة الجديدة، فهل تتحمل لغة الشعر مسؤولية هذا العجز؟.
والحقيقة أن اللغة في كينونتها، هي أداة اتصال الناس بعضها ببعض، ولكنها أيضاً في حقيقتها الفنية أداة اتصال، ووسيلة تأثر وتأثير، وإذا ما فقدت اللغة وظيفتها الأساسية بصفتها أداة اتصال، فإنها ستفقد بالضرورة قيمتها كوسيلة تأثير، ومن هنا بالضبط تفقد القصيدة، أو أي عمل إبداعي، تفقد ذاتها ووجودها وقيمتها في وجدان المستهدف (المتلقي).
إن اللغة في القصيدة هي القصيدة، وإذا كان الشاعر القديم لجأ إلى البيان، تاركاً لغته مفتوحة على القص والإخبار، تبعاً لطبيعة الحياة العامة التي كانت سائدة آنذاك، فإن الشاعر الجديد قد لجأ إلى إغلاق لغته على جوانب البيان والإعلام والإخبار، إذ لم تعد ثمة ضرورة لهذه الوظائف في القصيدة الجديدة، لأن ثمة من يقوم بها غير الشاعر، وغير القصيدة، فوسائل الإعلام أسرع اليوم من الشاعر ومن قصيدته.
والحقيقة هنا أن اللغة الشعرية عند الشعراء القدامى والشعراء التقليديين المعاصرين هي شكل من أشكال المضمون وحالة من حالات التجربة، لكنها في الشعر الحديث تغادر هذا المفهوم، لأن التجربة نفسها هنا (في القصيدة الجديدة)، تصبح حاملة للفعل اللغوي، على رأي الكثير من النقاد والأدباء والمبدعين.
لهذا فإن اللغة في الشعر الحديث تختلف عما كانت عليه في الشعر القديم، وهي تتحول من كونها وسيلة للأداء والتواصل، إلى لبنة أساس من لبنات النص الإبداعي الجديد، تأخذ قيمتها فيما توحي به لا بما تخبر عنه، وتأخذ قيمتها مما تولده في النص من أوضاع جديدة، ولكن ومع هذه القيمة المضافة للغة القصيدة الجديدة، فإنها وخلال عمليات الإبداع المفتعل (لدى البعض)، قد تركت المتلقي في مناخ من العتمة والإبهام.
ولهذا فإننا نرى أن كل شاعر منغلق على نفسه وعلى محيطه يخترع لذاته أسلوباً ليمتاز به عن غيره من الشعراء، فتحضر الذاتية بقوة مع هذا الانعزال في الإبداع الفني، ومعلوم اليوم، أن الانغماس البعيد في الذاتية سيصدم المتلقي كثيراً، ويدعه يسقط أكثر فأكثر في غموض الرؤى والاضطراب والحيرة.
ولهذا أيضاً كان من الطبيعي أن نجد على الساحة العربية ملايين الشعراء، لكن عدد الذين يبقى في ذاكرتنا قليل، وقليل جداً.
عبد المعين محمد زيتون
التاريخ: الثلاثاء 24-12-2019
الرقم: 17153