حينما ندلُّ على صاحب الفكر، نقول إنه مفكر، أي همُّه الشاغل الفكر في إطاره العام، وفي إطاره الأهم الفكر الإنساني، وكل ما يدعو ويساهم في تطوير العقل والذهن والفكر، بالتالي ما يحرك المجتمعات نحو النزوع إلى الارتقاء.
وحينما ندلُّ على من يحملُ في سلوكياته وأخلاقياته وأعماله ما يدعو للخير والتطور والتحضر، يحملها أفكاراً ومبادئ وعلوماً ومعارفَ تنعكسُ في هذا السلوك ومعه انسجاماً وترجمة على أرض الواقع نقول إن هذا الشخص مثقف..
هذا، ومع الأخذ بمبدأ النسبية، من أن المطلق غير قابل لأن يكون متجسداً حقاً، في شخص ما أو فكر ما، مثلاً الخير كله، أو الشر كله، الجودة كلها أو السوء كله، بل لابد من نسبة.
ففي الشخص الواحد لا نستطيع الجزم أو إطلاق الحكم المطلق بالخير أو الجودة، ناهيك عن الزاوية التي ينظر بها كل منا لكل من الآخرين ومنظوره انطلاقاً من إمكانياته الذهنية والفكرية والمعرفية، الأمر الذي يجعل إطلاق صفة المطلق أو إحلالها بشخص واحد غير دقيقة تماماً، ومع الأخذ بالحسبان هذه الأمور المبدئية الجوهرية، سأطرح التساؤلات التالية:
كيف لحامل فكر، ألا يتناسب سلوكه مع القيمة الفكرية التي يحملها ويعمل عليها فيكون سلوكه مطبوعاً ومتجسداً بقيمه الفكرية العليا..
كيف لمثقف ألَّا يعمل على تطوير فكره وبحثه ليكون صاحب فكر..
وبالوقت نفسه كيف يمكن أن ننعت حامل الفكر بأنه مثقف، بينما سلوكه لا ينسجم مع أفكاره..
كيف لمثقف وحامل فكر أن يفترق لديه الخطان، خطا الفكري والثقافي بين ما يضمر في عقله، وما يترجم في سلوكياته، وكيف لحالة الفصام هذه أن تنشأ لدى الشخص الواحد..
كيف يكون المرء مثقفاً وحامل فكر ولا يكون مبدئياً؟ وكيف يكون مبدئياً ولا يكون في الطليعة؟
كيف لا يؤسس لحركة ثقافية فكرية جمعية، فتتهاوى الطفيليات والطحالب والإمعات، وتقوى أماتُ الوشائج الحقة بين المثقفين.. لمَ لا يسعى المثقفون للتقارب والتواشج وتبادل وتمازج الرأي والفكر ليشكلوا نسيجاً غير متنافر، نسيجاً متماهياً مع حالة منسجمة من الرقي والحضارة
كيف لمثقف أو مفكر أن يطامنَ فاسداً، سواء أكان هذا الفساد متمثلاً في أشخاص أم مؤسسات، بل كيف له أن يكون هو نفسه من الفاسدين..؟
كيف يهادنُ الغثَّ ويعايشُ المتهالك المتقادم الرَّثَّ، ويهلل للموجات الرديئة الضَّحلة ويساهم في تكريسها، وبالوقت نفسه نعتبره نخبة بل ونخبة النخبة؟
كيف لا يضع موقفاً، ولا يثبت خطاً، لا يمأسس عليه وحسب، بل يجب أن لا ينحدر دونه، بل دوماً إلى ارتقاء.. كيف يترجم السلوك والفكر والثقافة من الخاص به إلى العام ويعممه فتكون نهضة مجتمعية فكرية ثقافية جمعية..؟
كثيراً ما تطالعنا حادثة هنا أو واقعة هناك عن اختلاف مثقفي ونخبة الوسط الثقافي أو الأدبي، أو تناحرهم أو تبادلهم اتهامات محقة أو غير محقة لدرجة التجريم أو الإجرام، وانتهاكهم لاحترام بعضهم البعض، وتجاوزهم لخطوط اللياقة أو اللباقة أو قواعد التعاطي العام ثقافياً أو فكرياً مع بعضهم البعض أو مع قضية ما، هل نذكر على سبيل المثال حادثة الندوة التي شارك فيها الروائي يوسف زيدان في المغرب منذ ثلاثة أعوام، وإذا ما صحَّ القول وصحت الواقعة كما تمت روايتها فكيف نتفهم شخصية مثل يوسف زيدان ونتقبلها على أنها فكرية ثقافية ومن النخبة..
وأشير لأكثر من قضية حول تعاطي أبرز الأسماء من الكتاب والأدباء واستخدامهم لألفاظ وسلوكيات خارج اللياقة والأدب العام لدى حديثهم عن زملاء لهم في الوسط نفسه، أو تعاملهم بين بعضهم البعض.
ثم كيف يكون المثقف مترفعاً وراقياً، إذا كان يمنع رأيه أو موقفه من الإعلان، أو يعلنه هنا وفي غرفة مجاورة يعلن عكسه، كيف هذا التذبذب والانفصام..
بل وأكثر، عندما نتذكر من باع قلمه وفكره وانقلب إلى المقلب المعاكس من قضايا وطنه وبعد سنوات عاد نادما لينخرط مجددا في الوسط والبيئة اللذين كان بهما وكأنه لم «يأت من قبلُ شيئاً فريا»؟
بل والمشكلة أيضا في أقلام تكتب لتلمِّعَ وتدافِعَ عن اسمٍ ما ثبتت مواقفه المتذبذبة ولا أقول الرمادية فقط فما بالكم بمن نكص على عقبيه في كل مواقفه راكباً موجة العودة بعد طول خيانة وأخطاء وخطايا؟
المفكرُ مثقفٌ بالضَّرورة، لكن المثقفَ ليس مفكراً بالضرورة، المثقف صادق.. والمفكر صادق.. بكل درجات ومستويات الصدق، وهو قابل لمراجعة أفكاره ومراقبتها وتطويرها وما عدا هذا غير مقبول.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 24-1-2020
الرقم: 17176