إذا قُدر يوماً توثيق تاريخٍ متكاملٍ للفن التشكيلي في سورية فلابد أن يشغل الأستاذ بشير زهدي مكانة مرموقة فيه، فقد كان أستاذاً لمعظم التشكيليين السوريين، وساعد أساتذة كباراً أمثال (محمود حماد وممدوح قشلان) على إقامة معارضهم الأولى، ومارس الرسم كهواية، كما كتب الكثير من النصوص عن الفن التشكيلي.
لا تروق كتاباته التشكيلية لبعض مرتكبي النقد الفني، فنصوصه الحريصة على إضاءة مكامن الجمال في التجارب التي يتحدث عنها هي نقيضٌ لنصوصهم الساعية إلى تصيّد الأخطاء، بل واختلاقها، ولا شك أن ذلك انعكاس لطبيعته الشخصية المُحبة، ولروحه الشفافة التواقة للجمال، ولعمقه المعرفي وسعة اطلاعه. وقبل كل شيء لتواضعه وابتعاده كلياً عن التباهي والادعاء والاستعراض، وهو في واقع الحال تواضع المثقف الباحث عن المعرفة، الحريص على إيصالها لطلابه وقرائه بأبسط صياغة تحفظ في الآن ذاته عمق المعلومة، وسهولة تلقيها، مغرداً خارج سرب الناعقين بالصياغات المبهمة المعقدة، التي لا تهدف إلا إلى إيهام الناس بعمق ثقافة كاتبها، بينما الوهم من نصيبه وحده. وأكثر من أدرك هذه الحقيقة طلاب في كلية الفنون الجميلة وسواها من الكليات التي درّس فيها (علم الجمال) حين استطاع أن يحرر هذه المادة – التي يجدها كثير من الطلاب مادة نظرية جافة من جمودها، وربطها بالتطبيقات العملية.
تقوم كتابات بشير زهدي بشكل عام على ثقافة تخصصية عميقة في علم الجمال، وتاريخ الفن. فبعد حصوله على شهادة الحقوق من الجامعة السورية عام 1951، أوفده الدكتور سليم عادل عبد الحق المدير العام للآثار والمتاحف حينها إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، حيث نال عام 1954 شهادة في الآداب من جامعة السوربون (باريس)، وشهادة في تاريخ الفن في العصور الوسطى، وثالثة في تاريخ الفن الحديث وعلم الجمال وعلم الفن، ودبلوماً من معهد اللوفر في تاريخ الشرق القديم وعلم المتاحف وتاريخ الفن. وقد عزز تلك الثقافة من خلال متابعاته الواسعة لمجال تخصصه، وعمله، فإثر عودته إلى دمشق عُيّن أمين جناح الآثار الكلاسيكية في المتحف الوطني بدمشق، وبقي في هذا الموقع منذ عام 1955 وحتى عام 1981 حين عُيّن الأمين الرئيس للمتحف حتى تقاعده عام2003، وخلال هاتين المرحلتين الطويلتين المتداخلتين لم يكف عن البحث والتأليف والنشر في المجلات المختصة وترجمة المقالات لمجلة الحوليات الأثرية. وقد بلغ عدد كتبه المنشورة نحو عشرين كتاباً، بينما بلغت بحوثه أكثر من مئة وخمسين بحثاً.
مع تأسيس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والفنون الاجتماعية عام 1960 ساهم في أول مطبوعات المجلس الذي أصبح عضواً في لجنتين من لجانه: (لجنة التاريخ والآثار ولجنة الفنون التشكيلية). وقد حمل هذا الكتاب عنوان (الفن الهلنستي والروماني في سورية)، وبسبب أهميته فقد أعيدت طباعته في السنة الدولية للكتاب عام 1972 مع تعديل في عنوانه، يترجم مفهوماً علمياً جديداً يأخذ بعين الاعتبار جوهر الفن الهلنستي كوليد إبداعي من تمازج الحضارتين الشرقية والغربية، فأصبح العنوان (الفن السوري في العصر الهلنستي والروماني).
شغفه بالآثار السورية جعله يخصص جلّ عمله لدراستها والكتابة عنها، فلا يوفر فرصة للتعريف المتباهي بها. ومن ذلك أني اصطحبت عام 1992 فناناً عربياً للمتحف الوطني بدمشق، وقبل بدء جولتنا مررت على مكتبه لتحيته وتعريف الضيف عليه، فتطوع بإصرار على مرافقتنا شارحاً على مدى خمس ساعات متتالية كل قطعة أثرية بفيض من الحماسة والمعرفة، وبعد أن غادرنا المتحف قال ضيفنا: إنه يشعر وكأنه انتهى للتو من قراءة كتاب علمي ثري.
انطوت برحيل بشير زهدي صفحة مشرقة لأعلام الآثار والمتاحف الذين وضعوا أسس المؤسسات الأثرية، ومداميك المعرفة بعالم الآثار، كما انطوت صفحة أساتذة المواد النظرية الكبار في كلية الفنون الجميلة، غير أنهم تركوا لنا ما يحفظ عملهم.
سعد القاسم
www.facebook.com/saad.alkassem
التاريخ: الثلاثاء 28 – 1 – 2020
رقم العدد : 17179