الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
عندما يُذكر اسم عبد الكريم اليافي، فإنه من الأسماء القليلة التي يصعب أن تقف إلى جوارها أسماء أخرى، وأسماء كثيرة. فعبد الكريم اليافي جاء إلى دمشق ليدرس العلم فدرس في الأقسام العلمية في جامعتها، ثم انحاز إلى الفلسفة والمجتمع والأدب والشعر والتذوق، سافر لاحقاً إلى باريس ليتابع علمه، فعاد من هناك متشعب العلوم، عارفاً بخفايا المباحث العلمية، وبأسرار جمال اللغة. درّس بعد عودته من فرنسا في كليات عديدة، وقدم في مجال النقد الأدبي قراءات جمة، وله في ميدان الدراسات طروحات هامة تعد وحيدة في مضمار المكتبة العربية، اختط فيها منهجاً تذوقياً عميقاً لا يقف عند القضايا الظاهرة فحسب، بل يقترب من جوهر النص أكثر، ويقترب من عمقه أكثر.
احتفت ندوة الأربعاء الشهرية التي تقيمها وزارة الثقافة بعبد الكريم اليافي لتكرمه، وتستعيد شيئاً من أبحاثه وآرائه، كونه شخصية قد لا تتكرر، إلى جانب أنه عَلَم من أعلام الفكر والثقافة، وقد قُدمت مباحث هذه الندوة في كتاب صدر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، حمل عنوان (عبد الكريم اليافي… المفكر الموسوعي والأديب البارع)، إعداد وتوثيق: د. إسماعيل مروة، ونزيه الخوري.
موت النقي حياة لا نفاد لها
افتتح هذا الكتاب بالكلمة التأبينية التي ألقاها الدكتور محمود السيد في صديقه الدكتور عبد الكريم اليافي في رحيله. وقد رأى الدكتور محمود السيد في كلمته: «إن من تخلده سيرته العطرة، ومناقبه الرفيعة، وآثاره القيمة، ومواهبه المتعددة أدباً وعلماً، يبقى حياً في نفوس الأجيال. فعبد الكريم اليافي – رحمه الله – كان آخر العمالقة الموسوعيين في زماننا الحالي، ذلك أن ثقافته هي ثقافة موسوعية بكل جدارة، فهو في دراسته الجامعية الأولى حاز شهادة الإجازة في العلوم (ر. ف. ك) عام ١٩٤٠، كما نال شهادة الإجازة في الآداب في السنة التي تليها. وفي دراساته العليا حاز خمس شهادات في تخصصات مختلفة، إلى جانب تدريسه في سبع كليات جامعية، وما رفد به المكتبة العربية من تآليف حسان في ميادين متنوعة، وهكذا كانت خسارتنا كبيرة بفقدان هذه الشخصية الموسوعية المتعددة الجوانب معرفةً وقيماً وسلوكاً وأداءً».
الرأس مال المعرفي والاجتماعي
قدم الدكتور عدنان مسلّم في مشاركته في فعاليات هذه الندوة تلخيصاً لإنتاج د. عبد الكريم اليافي المعرفي الاجتماعي من خلال عرضه مجموعة من الكتب والدراسات، منها: كتاب (تمهيد في علم الاجتماع) عام ١٩٥٧: يعرض هذا الكتاب تاريخ الدراسات الاجتماعية في عصور عدة، ويرى فيه المفكر عبد الكريم اليافي أن علم الاجتماع هو علم حديث النشأة، والسبب في تأخر نشوئه هو الانسياق في الحياة الاجتماعية. كما يؤكد فيه ضرورة دراسة تاريخ تطور العلوم ومنها علم الاجتماع، والبحث بشكل مفصل عن شروط الوجود للأشكال الاجتماعية المختلفة قبل استخلاص الأساليب الفكرية.
كتاب (في علم السكان) عام ١٩٥٨: وهو كتاب جامعي من منشورات جامعة دمشق يبين فيه د. اليافي مكانة الدراسات السكانية من خلال شواهد تاريخية توثق هذه المكانة. ويحدد العوامل المؤثرة في علم السكان مثل العامل الديني، والعامل السياسي، والعامل الحربي، والاقتصادي، والجغرافي، والنفسي
كتاب (دراسات اجتماعية ونفسية) عام ١٩٦٤: في هذا الكتاب يشير د. عبد الكريم اليافي إلى حداثة تكوين علم الاجتماع بالنسبة إلى باقي العلوم، كما يعرض مناهج وطرائق البحث العلمية، وتطور استخدامها في الدراسات الاجتماعية، وتعريف ماهية العينات المستخدمة في البحث العلمي، وتسويغ أخذ العينة وأهميتها.
كتاب (فصول في المجتمع والنفس) عام ١٩٧٤: يعرض د. اليافي في هذا الكتاب، الذي يأتي ضمن فصول عدة، يعرض ملامح من التحليل النفسي للإنسان عند فرويد وإدلر ويونغ، ويدرس القضايا الاجتماعية النفسية من خلال إرجاعها إلى العامل النفسي وشخصية الإنسان.
الحدوس الفلسفية
يتناول د. علي محمد إسبر في مبحثه هذا جملة من الحدوس عند د. عبد الكريم اليافي، ومنها: الحدس اللغوي. إذ يرى د. إسبر أن ما يميز اليافي بصفته فيلسوفاً عربياً هو حدسه اللغوي الفريد، حيث تتميز اللغة العربية في تجربته الفلسفية بأنها أفق أنطولوجي كاشف لمعنى الوجود؛ ذلك أنه يجد فيها لغة كونية تضرب بجذورها التاريخية إلى آلاف السنين، ما جعلها تحمل زخماً معرفياً فريداً من أقدم العصور، ودقة عالية في التعبير عن الموجودات وحقائقها.
كما يتطرق د. إسبر للحديث عن الحدس الصوفي عند د. اليافي مبيناً أن عبد الكريم اليافي هو في أعمق أعماقه متصوف هدفه الأسمى الاقتراب من الذات الإلهية إلى مدى أبعد بكثير مما يتيحه الإيمان التقليدي؛ وعليه فإن اليافي هنا لم يهتم باتخاذ موقف إيجابي فقط من الصوفية، بل إنه تماهى مع هذه التجربة نفسها ليصير هو ذاته متصوفاً، يستضيء بتجارب أسلافه من الصوفية، ويدافع عنها، محاولاً الذهاب بها إلى البعيد.
بحر من العلم
من جانبه يرى د. إسماعيل مروة في مبحثه الذي قدمه في هذه الندوة أن د. عبد الكريم اليافي لم يكن شخصاً عادياً في كل ميدان طرقه في حياته، بل كان لا يشبه أحداً، ولا يستطيع أحد أن يلزم نفسه ما هو عليه علماً ودأباً وحياة وتواضعاً وقامة. فعبد الكريم اليافي عاش حياته للعلم كما أراد، وبقي على ثوابته من لحظة انتشار عبيره الأولى، وغادر دنيانا وهو يطل من شتى المنابر ليعطينا المثال الحق عن العرب وحضارتهم والطرائق المثلى التي بإمكاننا من خلالها أن نعيش حياة متوازنة علماً وانتماء.
التاريخ: الثلاثاء11-10-2020
رقم العدد : 986