إضاءات- د خلف علي المفتاح
على الرغم من انشغال العالم بفيروس كورونا والتركيز على جمهورية الصين الشعبية والرهان على امكانياتها لمواجهة هذا الفيروس الفتاك ومحاولة الغرب الإساءة إليها ومحاصرتها، إلا أن الشعب الصيني وحكومته الوطنية وتضامنه الاجتماعي والاشتغال بروح العمل الجماعي مكن الصينيين من تجاوز حالة الخطر والتحول الى مرحلة تقديم المساعدات الطبية في هذا الإطار إلى أغلب دول العالم، وهذا يعكس ثقافة انسانية راسخة لدى الصينيين. وهنا لابد من الإشارة الى ما تشهده الصين من نهضة اقتصادية غير مسبوقة، حيث تتميز جمهورية الصين الشعبية عن غيرها من دول العالم انها ترسم وتقر سياساتها المستقبلية في المجالات كافة وخاصة الاقتصادية والتنموية عبر مؤتمرات دورية ومنتظمة للحزب الشيوعي الصيني، هذه المؤتمرات التي ينتدب اليها ممثلون من كافة المقاطعات الصينية تحددهم وتنتخبهم اللجان الحزبية المنتشرة في كافة أرجاء جمهورية الصين الشعبية، حيث يبلغ عدد اعضاء الحزب الشيوعي الصيني حوالي ٨٢ مليوناً يقومون باختيار حوالي ٢٢٠٠ عضو للمؤتمر العام للحزب يضاف اليهم ممثلون من كافة قطاعات المجتمع الصيني بما فيها القوات المسلحة، هذه المؤتمرات تشكل تحولا مفصليا في مسيرة الصين نحو المستقبل من خلال اقرار سياسات اقتصادية وخطط تنموية وانتخاب قيادات تمثل أجيالاً تحمل ملامح المستقبل المنشود، وتأخذ في الاعتبار احتياجات الشعب الاساسية وامكانات الدولة وثرواتها وفي المقدمة الثروة البشرية والطاقات الخلاقة للشعب الصيني وقدرة الحزب الشيوعي الصيني على قيادة عملية التحول تلك بحكم تموضعه في المجتمع الصيني وامتلاكه للكوادر الفاعلة والمؤهلة علمياً وفكرياً ومهنياً القادرة على قيادة تلك العملية الشاقة والصعبة.
إن ما يميز التجربة الاشتراكية الصينية -او ما يطلق عليه (صيننة الاشتراكية)- هو اعتمادها على ما يميز الشعب الصيني من خصائص اجتماعية وثقافية وطبقية خاصة وان أغلبية الشعب الصيني تعيش في الارياف وتعتمد على العمل الزراعي فجاءت التجربة الصينية مراعية لهذه الخصوصية، وساعية للتوازن في عملية التنيمة بين المدن والارياف وكذلك بين الاقاليم الساحلية والداخلية والتعامل مع كل بيئة بحسب خصوصيتها واحتياجاتها ما أعطى مرونة كبيرة للحكومات المحلية في رسم سياساتها التنموية وهو ما حقق نوعا من التكامل والتناغم والانسجام في تنفيذ السياسات الاقتصادية .
لقد استطاعت جمهورية الصين الشعبية بفضل الحوكمة السياسية والاقتصادية واتباع سياسة الاصلاح والانفتاح التي بدأتها منذ اكثر من أربعين عاماً بنهج وضعه الحزب بقيادات مثلها في مراحل مختلفة كل من دينغ سياو بينغ وجيانغ زي من وليو جنتاو واستمرت حتى الآن، ان تصبح أكبر ثاني قوة اقتصادية في العالم وتتجه لتكون القوة الاولى خلال أقل من عقد من الزمن وهو ما حدده المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني .
لقد استطاعت جمهورية الصين الشعبية تقديم تجربة ناجحة في إطار تحديث الحزب وتطويره واتباع سياسات اقتصادية رشيدة منفتحة وهو ما اطلق عليه اقتصاد السوق الاشتراكي تقوم على توسيع القاعدة الاقتصادية ودعم القطاعات الاقتصادية كافة، سواء عامة او خاصة بهدف تحقيق تنمية حقيقية تصيب كافة القطاعات الاجتماعية وتحقق حالة استقرار في المجتمع الصيني تتأسس على قاعدة الرفاه الاجتماعي والتناغم والانسجام والتنافس بين مكوناته ،بدل التناحر والصراع والاقصاء والاستغلال وقد حققت تلك السياسات الحكيمة نجاحات هامة بدليل أن معدلات التنمية الاقتصادية في الصين هي من اعلى المعدلات في العالم حيث يساهم القطاع الخاص الصيني بحوالي ستين بالمائة من الناتج المحلي، ويستقطب حوالي سبعين بالمئة من سوق العمل اضافة الى مساهمته باكثر من خمسين بالمائة من الضرائب والرسوم التي تدخل الخزينة ما يجعل منه قطاعاً فاعلاً واساسياً في عملية التنمية علماً أنه يعمل تحت اشراف الدولة وتحكمها بالسياسات الكلية النابعة من المصالح الحيوية للشعب الصيني ورغبته بالتطور والتنمية .
وإلى جانب ذلك ارتفع معدل دخل الفرد في الصين الى اكثر من عشرة الاف دولار علماً انه كان قبل عشر سنوات لا يتجاوز خمسة الاف دولار ومن المتوقع ان يصل الى حوالي عشرين الف دولار خلال السنوات الثماني القادمة علماً ان عدد العمال في الصين يزيد على ٧٦٠ مليون عامل ويمكن أن يصل الى حوالي 900 مليون عامل بحلول عام 2030 ، ولعل اتباع الصين لسياسات رشيدة على الصعيد الداخلي يقابله على التوازي سياسة متوازنة على الصعيد الدولي حيث تتميز السياسة الخارجية لجمهورية الصين بأنها تقوم على تعزيز التعاون والانسجام بين الدول وتحقيق السلم العالمي وعدم التدخل بالشؤون الداخلية لأي دولة وتعزيز الشرعية الدولية وحفظ السلم والامن الدوليين وعدم السماح باستخدام المنظمات الدولية وخاصة مجلس الأمن وسيلة للضغط والهيمنة بيد القوى الكبرى ولاسيما الولايات المتحدة الامريكية وهو ما يمكن لحظه بموقف الصين من الازمة في سورية واستخدامها لحق النقض أكثر من مرة لابطال مشاريع قرارات تمس السيادة السورية .
وإلى جانب ذلك تقوم جمهورية الصين بتقديم المساعدات الاقتصادية والانسانية للدول النامية وتقدم لها الخبرات التقنية والفنية وتساعدها في تنفيذ المشاريع التنموية من منشآت صناعية وسدود وتمدها بالخبراء وتوفر التأهيل والتدريب للكوادر اللازمة لعمليات التنمية في تلك البلدان، ما يساهم في تحسين مواردها وزيادة مهارة العاملين فيها وهو ما ينعكس ايجابا على التنمية والاستقرار فيه لعل المشروع الاستراتيجي الحزام والطريق سيشكل تحولاً هاماً على مستوى العلاقات الدولية وتشبيكها اقتصادياً وستستفيد منه أكثر من ستين دولة وإقليم .
إن اتباع جمهورية الصين لسياسات داخلية وخارجية حكيمة يحقق لها احتراماً كبيراً على الصعيد الدولي ويجعل أكثر شعوب العالم تتطلع لزيادة فعاليتها السياسية على الصعيد الدولي لان في ذلك احياء لبارقة امل لوضع دولي اكثر عدالة وتوازناً وأمناً واستقراراً .