في ذكرى الجــلاء..السوريون يستلهمون تضحيات الأجداد لتحصين الاستقلال
كتب المحرر السياسي ناصر منذر
بين تضحيات أبطال الاستقلال وملاحمهم الأسطورية في مقارعة المحتل الفرنسي، وبطولات وتضحيات رجال الجيش العربي السوري في معارك التحرير ضد التنظيمات الإرهابية وداعميها في الغرب الاستعماري، تأتي الذكرى الرابعة والسبعون لجلاء المستعمر الفرنسي عن أرض سورية الطاهرة، لتؤكد تمسك الشعب السوري بخيار المقاومة للدفاع عن وطنه وأرضه، وإصراره على دحر مؤامرات الأعداء ومخططاتهم الاستعمارية مهما تبدلت أشكالهم وتغيرت أدواتهم وتلونت شعاراتهم.
السوريون يحيون اليوم ذكرى الرابعة والسبعين لعيد الجلاء وهم يواصلون بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم خوض معركة المصير في مواجهة الحرب الإرهابية القذرة التي تشنها قوى الاستعمار القديم والجديد، والتي تنوعت أشكالها بدءاً من الاعتداءات العسكرية على الأرض، والجرائم التي يرتكبها الإرهابيون بأوامر من مشغليهم في الغرب والكيان الصهيوني ولدى نظام المجرم أردوغان، وصولاً إلى الإرهاب الاقتصادي والنفسي، عبر سياسة فرض الحصار الخانق الذي يستهدف السوريين في لقمة عيشهم، فيُسطِّرون أروع الملاحم البطولية، ويعيدون كتابة التاريخ مجدداً، مستمدين قوتهم من تضحيات الأجداد الذين حافظوا بدمائهم الطاهرة على وحدة واستقلال بلدهم، والتي تجسدت من خلال الثورات الوطنية في الشمال وجبال الساحل وحوران وجبل العرب والزاوية ومنطقة الجزيرة وحماة وغوطتي دمشق قادها مناضلون شرفاء أمثال سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وأحمد مريود وفوزي القاوقجي وحسن الخراط وسعيد العاص ومحمود الفاعور وغيرهم الكثيرين، مكرسة وحدة الدم السوري في مواجهة الاستعمار ومخططاته التقسيمية، لتثبت أن طريق الاستقلال والسيادة والخلاص من الاستعمار لا بد أن يعبّد بدماء الشهداء.
الجلاء كان ثمرة نضال خاضه الشعب السوري على مدار أكثر من 25 عاماً في مقارعة المحتل الفرنسي حتى أرغموه على الخروج صاغراً يجرّ أذيال الهزيمة، فجلاء هذا المستعمِر كان نتيجة حتمية لخيار المقاومة منذ أن حاول هذا المستعمِر فرض شروطه على سورية عبر ما سمي إنذار غورو في الـ 14 من تموز عام 1920 والذي حمل مطالب لا يمكن القبول بها، بينها تسريح الجيش وقبول الانتداب الفرنسي دون شروط، فتصدى له أبناء شعبنا بما يملكونه من إيمان وعزيمة واستشهد العديد منهم في معركة غير متكافئة، والتاريخ لا يزال يستحضر معركة ميسلون المحفورة في الذاكرة وبسالة قائدها وشهيدها وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة وبقية أبطالها وشهدائها كعلامة مضيئة في تاريخ سورية والعرب أجمعين، فهي تختصر أسمى معاني التضحية والدفاع عن عزة الوطن وكرامة أهله، وأثبتت أن السوريين لا يمكن أن يقبلوا الذلّ ولو كانت حياتهم الثمن لذلك.
وفي يوم السابع عشر من نيسان عام 1946، توَّج شعبنا انتصاراته بعد نضال طويل ضد المحتلين باحتفالات كبيرة عمت البلاد ،لتكتسب هذه الذكرى أهمية خاصة، لأن الجلاء كان تتويجاً لمعركة الاستقلال من الاستعمار القديم، لكنه كان في الوقت نفسه بداية لمواجهة طويلة مع الاستعمار الجديد الذي أضاف إلى أساليب الاستعمار القديم وسائل عدوانية أخرى تمثلت في تفريخ الإرهاب والاستثمار في جرائمه لمواصلة استهداف الدولة السورية، حيث جند هذا الاستعمار مئات الآلاف من المرتزقة الإرهابيين من مختلف أصقاع الأرض، وأسند أدواراً وظيفية لوكلاء إقليميين كأنظمة السعودية ومشيخة قطر وتركيا التي يقودها المجرم أردوغان، بالإشراف على تدريب وتسليح وتمويل أولئك الإرهابيين قبل إرسالهم إلى سورية، كي يستكملوا تنفيذ ما عجز عنه الاستعمار القديم، ولكن مسيرة نضال السوريين لم تتوقف، وما تجسده انتصارات الجيش العربي السوري ضد الإرهاب ورعاته اليوم خير دليل على ذلك.
اليوم نحتفي بالجلاء ونحن أكثر قوة وصلابة وتصميماً على دحر الإرهاب ورعاته..والدروس التي رسخها هذا الإنجاز الوطني العظيم ستظل حاضرة في أذهان كل السوريين، فمعاني الاستقلال رسخت عظمة التضحيات التي تُبذل للدفاع عن أرضنا وحقوقنا وسيادتنا الوطنية، ورجال الحق أبطال الجيش العربي السوري يجسدون تلك المعاني النبيلة بتسطيرهم أروع ملاحم البطولة، ويرسمون ملامح غد مشرق يليق بكبرياء سورية، والشعب السوري الذي حقق الاستقلال بصموده ونضاله ووحدته الوطنية الراسخة، ودحر المحتل الفرنسي قبل 74 عاماً، وقبلها طرد المحتل العثماني عام 1916 يواصل اليوم مسيرته النضالية، ملتفاً حول قيادته وجيشه الباسل لتحقيق الجلاء الثالث بالقضاء على الإرهاب وداعميه وطرد الغزاة المعتدين.
الجلاء العظيم .. انتصارات الوطن يصنعها شهداؤه الأبرار ورجاله الأبطال
فؤاد الوادي
وسط هذا الصقيع الذي يلف أرواحنا، تطالعنا شمس الجلاء ليغمرنا مجدداً دفؤها وذاكرتها وذكرياتها المفعمة بمشاهد العزة والفخار، وقد التقت مع صور البطولة والانتصار التي رسمها شهداؤنا الأبرار بدمائهم الزكية في حربهم ضد الإرهاب، في مشهد يلتقي فيه أبطال الأمس مع أبطال اليوم، حيث المعركة مع قوى الشر والطغيان والاستعمار، وما تزال تدور رحاها لإخضاع وتدمير وتقسيم ونهب وطننا الغالي وضرب وحدته وهويته وتاريخه ومستقبل أبنائه.
تحت شمس الجلاء، يتجلى عناق النصر والشموخ بأبهى معانيه وصوره، حيث يعانق الشهداء انتصارات بانتصارات صنعوها وارتقوا، وخلفهم يصلي رجالات الجيش العربي السوري وقد وقفوا كالطود الشامخ يحملون أرواحهم بين أكفهم يحمون تراب الوطن ويذودون عنه.
يعود الجلاء ليخيم بأجنحته الوارفة الظلال والغلال والآمال مُلقياً باستحقاقات التاريخ والضمير واللحظة الاستثنائية إلى واجهة الوجدان الذي هو أحوج ما يكون، وقد بلغ الجولة الأخيرة في نزال المصير والوجود إلى من يمده بجرعات جديدة من الصفاء والنقاء والبقاء والحضور القوي الأخّاذ الذي لم يغب يوماً عن مشاعر السوريين وصيرورة حياتهم، والذي لطالما كان الصانع الحقيقي لانتصاراتهم وأمجادهم التي يواصلون صنعها على كافة ساحات وجبهات الوطن.
لقد واجهت سورية مخاضات مريرة وعسيرة حتى انتزعت استقلالها الذي كان ثمرة نضالها وكفاحها الطويل ضد المستعمرين الغزاة منذ بداية القرن الماضي، عندما كان التآمر الغربي في ذروته، التآمر الذي لا يزال مستمراً حتى اللحظة مع اختلاف الأوجه والأقنعة والأشخاص وانتقاله من السر إلى العلن.
محطات عديدة مرت على الشعب السوري حتى نال استقلاله في العام 1946، محطات كانت معمدة بالدماء والفداء والعطاء والتضحية بلا حدود، المحطة الأولى كانت عندما تم في 8 آذار عام 1920 إعلان سورية (مملكة عربية مستقلة) بموجب قرار تشريعي صادر عن مجلس (المؤتمر السوري)، لكن المجلس الأعلى للحلفاء لم يرضَ الاعتراف بهذه الدولة الوطنية الشابة بتأثير من الحكومة الفرنسية وكانت النتيجة القضاء على هذه الدولة العربية الشابة.
بداية الكفاح ضد المستعمر الفرنسي كانت في يوم معركة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز 1920 بعد معركة غير متكافئة استشهد فيها وزير الحربية البطل يوسف العظمة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من النضال والكفاح ضد الغزاة كانت ذروتها بين عامي 1925 و1927 اضطر على إثرها المفوض السامي الفرنسي (بونسو) للإعلان بأن الحكومة الفرنسية لا تعارض طلب الاستقلال إذا ارتأى الشعب السوري ذلك، وللوصول إلى هذا المطلب كانت الدعوة إلى انتخابات تأسيسية لوضع نص (الدستور السوري) وقد جرت هذه الانتخابات بالفعل وأوصلت إلى الجمعية التأسيسية جملة من الزعماء الوطنيين أمثال هاشم الأتاسي وإبراهيم هنانو وشكري القوتلي الذين شكلوا ما يسمى (الكتلة الوطنية) وقد صاغ أعضاء (الجمعية التأسيسية) الدستور السوري عام 1928 في 115 مادة.
ولم يترك الدستور أي دور لسلطات الانتداب الفرنسية ممثلة بالمفوض السامي الذي يقيم في بيروت، والمندوب السامي في دمشق، الأمر الذي دفعه إلى تجميد مشروع الدستور، حتى 22 آب سنة 1930 حيث أصدره بعد إضافة مادة له تحت رقم 116، وهي تربط مزاولة النشاطات السيادية بموافقة المفوض السامي عليها قبل إنفاذها، وهو ما جعل من السيادة السورية منقوصة، لكن ذلك لم يمنع السوريين من إجراء انتخابات نيابية قادت إلى اجتماع برلمان وطني انتخب أعضاؤه السيد محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية في عام 1932.
العام 1936 كان حافلاً بالحراك الشعبي المندد والرافض للاحتلال حيث عمت المظاهرات والإضرابات جميع المدن السورية واستمرت زهاء ستين يوماً وهو ما عرف بـ (الإضراب الستيني) الذي رضخت الحكومة الفرنسية على إثره لطلب الاستقلال، ولكنها ربطت ذلك بوجوب توقيع معاهدة بين الطرفين، وبالفعل ذهب وفد سوري رسمي يمثل سورية بزعامة كل من هاشم الأتاسي وفارس النوري وسعد الله الجابري إلى باريس، وفاوض الحكومة الفرنسية هناك، وانتهت المفاوضات إلى توقيع المعاهدة الفرنسية – السورية بتاريخ 9 أيلول 1936 التي تعترف فيها فرنسا بسورية كأمّة مستقلة.
واستناداً لهذه المعاهدة بدأت الحكومة السورية بممارسة أعمالها السيادية فدعت إلى انتخابات نيابية جديدة قادت إلى انتخابات مجلس حر ومستقل انتخب السيد هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية الجديدة، والمفروض أنها قد استقلت استقلالاً كاملاً، لكن الأوضاع الدولية كانت قد تأزمت، وبدأت تلوح في الأفق نذر حرب عالمية جديدة في أوروبا، دفعت بصناع القرار الفرنسي إلى اعتبار دول المشرق (أي سورية ولبنان) قواعد استراتيجية هامة لحماية الطريق إلى المستعمرات الفرنسية في الهند الصينية ولهذا ضغطوا على أعضاء(الجمعية الوطنية) الفرنسية لكي لا يصدقون على نص المعاهدة، وقامت الحكومة الفرنسية بتبني ذلك عبر تعيين
موظف أمني كبير هو (غابرييل بيو) كمفوض سام لفرنسا على سورية ولبنان، وقام فور وصوله بإلغاء جميع الأوامر والتشريعات التي صدرت عن الحكومة السورية كدولة مستقلة كاملة السيادة بين 1936 و1939 ما أدى لاستقالة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي، وتبعه رئيس الحكومة في تقديم استقالته، ولم يكترث المفوض السامي الفرنسي الجديد بذلك، بل إنه عمد إلى تصعيد الموقف بحل البرلمان، وحاول تشكيل حكومة سورية جديدة بدلاً من المستقيلة ولكن لم يستجب أي من الزعماء السياسيين للأمر ما جعله – أي المفوض السامي- يكلف حكومة مؤقتة من مديري الوزارات بتسيير الأمور مؤقتاً ودام ذلك حتى إقالة (بيو) وتعيين الجنرال(دنتز) مفوضاً سامياً جديداً على سورية ولبنان، حيث استدعي هذا فور وصوله إلى سورية السيد خالد العظم وكلفه بممارسة مهام كل من (رئيس الدولة) و(رئيس الحكومة) في سورية بانتظار نهاية الحرب.
العام 1941 كان حافلا بالتطورات الدولية حيث احتل الألمان القسم الأكبر من فرنسا، ما أدى إلى قيام حكومة (بيتان) المتعاونة مع الألمان، والتي اختارت مدينة (فيشي) مقراً لها، وقد بعثت سلطات الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان حكومة الفيشيين ولكن الفرنسيين الأحرار بزعامة الجنرال ديغول لم يرضخوا لهذا الخضوع، بل انضموا للقوات البريطانية في الشرق، التي كانت تتمركز في مصر وفلسطين والعراق، وفي صباح اليوم الثامن من حزيران 1941 تقدمت باتجاه الأراضي السورية واللبنانية قوات ضخمة، يقودها الجنرال الإنكليزي (ويلسون) الإنجليزي، ويعاونه الجنرال الفرنسي (كاترو)، وقد ألقت الطائرات الحليفة المرافقة لهذه القوات فوق المدن السورية واللبنانية الكبرى آلاف المنشورات التي تحمل توقيع الجنرال كاترو وبتفويض من الجنرال ديغول قائد الفرنسيين الأحرار وتضمنت هذه المنشورات اعتراف الجنرال كاترو بأنه دخل مع قواته أراضي هذين البلدين لايصالهما إلى ممارسة الاستقلال الفعلي في أقرب الآجال.
في ذكرى الجلاء..الأبناء على هدي الأجداد في المقاومة والصمود
عبد الحليم سعود
في مثل هذه الأيام المجيدة من كل عام يحيي شعبنا يوم الجلاء الأغر الذي شهد جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن بعد أن قدم أجدادنا الميامين أرواحهم رخيصة في مواجهة جيشه الجرار وأسلحته المتطورة وغطرسة عدوانه وقدموا أغلى التضحيات.
فقبل ٧٤ عاماً استطاع أبناء سورية الشجعان أن يجبروا الغزاة الطارئين على الجغرافيا والتاريخ على حزم أمتعتهم والرحيل دون قيد أو شرط، ساحبين خلفهم عار الاحتلال وذُلّ العجز عن إخضاع شعب لم يعرف في تاريخه الخضوع لمحتل، شعب تمرّس على المقاومة والنضال، وسطّر عبر تاريخه الطويل ملاحم خالدة في مجابهة الأعداء والطامعين من أجل صون كرامته وعزته وحماية أرضه واستقلاله.
وقد درج السوريون في مثل هذه الأيام الخالدة من كل عام بكل الفخر والاعتزاز على استعادة تاريخ مشرف من البطولات والانتصارات التي سطرها الآباء والأجداد ليصنعوا لنا عرس البطولة والاستقلال، كي نستمد منه روح الصمود والعزيمة لصنع المزيد من الملاحم والانتصارات التي تحصن الوطن وترفع علمه واسمه وتحمي حدوده من كل غازٍ وطامع .
فطريق الاستقلال والجلاء لم يكن معبداً بالأحلام أو مفروشاً بالورود كما يتصور البعض أو يتخيل، بل كان وعراً وشاقاً تخللته الكثير من الصعوبات والتضحيات، ويسجل للسوريين أنهم كانوا أسرع أشقائهم العرب في طرد الغزاة والحصول على استقلالهم الكامل والناجز، فمنذ وطأ الغزاة الفرنسيون أرض سورية بين عامي 1918 و1920 بذريعة الانتداب هبّ أبناؤها الشرفاء في كل المناطق بشكل عفوي لمقاومتهم، فأشعلوا الأرض من تحت أقدامهم في كل مكان، مفتتحين تاريخاً جديداً من البطولات الأسطورية والتضحيات النادرة من الساحل وجباله العصية إلى دمشق المقاومة ومن جبل العرب الأشم حتى سهول حلب الشهباء ومن جبل الزاوية الصامد حتى عروس الفرات الأبية .
فقد شهدت دمشق أولى الملاحم البطولية الخالدة في تاريخ سورية الحديث حيث واجه أبناء الجيش العربي السوري آنذاك في ميسلون جحافل غورو المدججة بأحدث أنواع السلاح من طائرات ودبابات ومدافع، عبر المئات من المتطوعين الذين لبوا نداء الواجب بأسلحة متواضعة وعتاد بسيط، فكتبوا أول سطر في سفر الاستقلال بحبر دمائهم الطاهرة ودماء قائدهم وزير الحربية آنذاك الشهيد البطل يوسف العظمة، لتكون أولى رسائل السوريين لفرنسا المعتدية أن ” بلادنا هي مقبرة الغزاة والطامعين”.
ثم تواصلت ثورات أبناء سورية في كل المناطق، وتوحّد الجميع خلف قيادة واحدة وهدف واحد وحمل الراية رجال عظام كقائد الثورة سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي والمناضل إبراهيم هنانو ومحمد الأشمر وأحمد مريود وغيرهم وقادوا معركة الاستقلال المريرة فكان لهم ما أرادوا وخرجت جيوش فرنسا المسماة “عظمى” مهزومة مدحورة وتحقق الاستقلال، لتكرّ سبحة الهزائم الفرنسية والبريطانية من لبنان والعراق إلى تونس والمغرب ومن مصر إلى الجزائر، حيث كان لاستقلال سورية آنذاك وقع ومؤثر في قلوب العرب لما تمثله في الوجدان القومي.
وبعد الاستقلال مباشرة بدأت معركة أخرى طويلة عنوانها مواجهة المشروع الصهيوني الذي اغتصب فلسطين فخاض أبناء سورية في سبيلها العديد من المعارك الشرسة وما يزالون لتحريرها وتحرير الجولان العربي السوري المحتل، بالإضافة إلى معارك أخرى دفاعاً عن أشقائهم في فلسطين ومصر ولبنان في مواجهة هذا العدو وحلفائه الغربيين.
ولعلها من المصادفات ذات المدلول العميق أن تمر ذكرى الجلاء هذا العام وقد أنجزت سورية معظم انتصاراتها في محاربة الإرهاب التي احتشد في معركتها كل أشرار العالم وطغاتهم وإرهابييهم ومرتزقتهم، وتحالفت معهم دول الاستعمار القديم والجديد إلى جانب ورثة السلطنة العثمانية البائدة إضافة إلى الكيان الصهيوني وبعض مشيخات النفط الخليجية، ما يشير بكل وضوح إلى طبيعة هذه الحرب القذرة وشراستها واستهدافها لسورية بشكل خاص عن بقية أقطار الوطن العربي لدورها المحوري الذي تلعبه على مسارح العالم السياسية والحضارية والإنسانية.
ومن الصدف والأقدار العظيمة أن سورية بشعبها الأبي الصامد وجيشها البطل وقيادتها الشجاعة قد خيبت آمال المتآمرين، حيث كان الأبناء والأحفاد في الموعد و ردوا التحية لرجال الاستقلال بأحسن منها، ووقفوا صامدين في وجه الإرهاب وداعميه وألحقوا به هزائم في كل الساحات، مسطرين بدمائهم وتضحياتهم أروع قصص البطولة والفداء، وضاربين أروع الأمثلة في البذل والعطاء، ومقدمين القدوة الحسنة في التضحية وحب الوطن لكل الأجيال القادمة.
وما دمنا نتحدث عن يوم الجلاء المجيد فلابد من فهم وإدراك ما يجري اليوم في بلادنا، فالعدوان الذي تتعرض له سورية منذ تسع سنوات لا يستهدف الجغرافيا والتراب والإنسان فحسب بل يستهدف التاريخ القريب والبعيد والحاضر والمستقبل إضافة إلى تضحيات ومنجزات الآباء والأجداد، فعندما يقوم هؤلاء الإرهابيون بتدمير الحضارة والثقافة والتراث والإساءة إلى الرموز الوطنية ثم يعلو صراخهم مستنجدين بالأعداء من أجل الانقضاض على سورية واحتلالها، فهم لا يقيمون وزناً للاستقلال وليس لديهم الحد الأدنى من قيم الكرامة والحرية والسيادة التي يتشدقون بها، فماذا يبقى من “ثورتهم” المزعومة، عندما تصبح كل من فرنسا المستعمرة وتركيا الطامعة وإسرائيل المحتلة والمعتدية حلفاء وأصدقاء..؟!!!
إن ذكرى الجلاء وما جرى في بلادنا خلال تسع سنوات يؤكد بأن المستعمرين والغزاة السابقين لم يتخلوا عن سيرتهم الأولى وعن أصلهم العدواني، وإن جاؤوا بأسماء وعناوين وأوهام جديدة، وقد استخدموا جيوشهم المأزومة والمهزومة ليحصدوا نفس النتائج، لأن سورية لم تعرف في تاريخها الخضوع أو الاستسلام وهي جاهزة دائماً لدفع ثمن استقلالها ولن تفرط به ولن تتخلى عن ذرة شرف أو كرامة أو تراب مهما غلت التضحيات.