الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:
«ماري» هي رواية جديدة من حيث معالجة العادات والتقاليد وما يرغب به أفراد المجتمع المثقف بصفتهم فئة ثقافية تذهب إلى مكان واحد وهو احترام الإنسان وترسيخ العلاقات الإنسانية المتبادلة في التعامل.
وإن كان الروائي محمد أحمد الطاهر قد فجر الأحداث في منطقة جغرافية معينة، إلا أن الواقع النفسي لأحداث الرواية يمكن أن يكون مرغوباً في مجتمعات أخرى ومناطق جغرافية أخرى.
هناك في قرية المضيق الواقعة بين الرقة وحماه ودير الزور جعل الكاتب أحداثه تتحول وفق ما رسمها انعكاساً لكثيرين من الذين يفكرون بعقولهم بأماكن مختلفة.
أحداث رواية «ماري» المتلاحقة والتي تأخذنا إلى متابعتها بفترة زمنية تحمل تحركاتها الحب والإنسانية كمضمون أساسي للنسيج الفني والأدبي في مفاصل بينها يوشي الشعر معطيات السرد الذي نراه محبباً ولاسيما أنه يقدم قصة حب حدثت كثيراً ولم يجرؤ أحد على كتابتها.
كان الحب كبيراً إلى درجة جعلت النهايات خارقة ومفتوحة للقارئ الذي اشتعلت عواطفه وهو يصادف التقنيات العالية التي رافقت السرد والأسلوب والمعتمدة على أن الخطف خلفاً، جعلنا نحن والمتلقي في لهفة وشوق لمعرفة ما يمكن أن ينتهي إليه أبطال الرواية ليبقى القارئ في النهاية قلقاً أو محتاراً أمام ماهية التفكير البنيوي والتربوي والاجتماعي الذي فرض على الكاتب نهايات لا بد أن تكون كذلك لأسباب كثيرة.
الحب موضوع الرواية صوره الروائي في بيئة جميلة وأحاطه بجماليات أخرى أخذ كلماتها وألفاظها من خوارق الطبيعة التي أوجدها الله لتكون من جماليات البيئة ومحسناتها.
ماري الملاك الذي هبط على الأستاذ أسامة وكأنه وهج رباني يوحي بالأمن والسلام وتملأ الوجود رحمة ومحبة تنثرها تلك الهالة التي تؤطرها وتحيط بها من كل الجهات فتبدو ككتلة نورانية بشعرها الذي ينساب كشلال على كتفيها وقوام يشبه غصن البان، استطاعت أن تؤجج مشاعر الحب في قلب أسامة منذ اللحظة التي دخلت بها مدرسة المضيق الابتدائية، حيث بدأ الكاتب بنسج خيوط روايته مع باقي شخوص الرواية وهم عدد من المعلمين والمعلمات ومدير المدرسة والمستخدم.
ويربط الكاتب زمان الحدث أو القصة بأسماء تعلقت بهم وصارت مع الزمن شاهد عيان على حكايا وأساطير لا يمحوها الزمن، مثل مغارة كسارة التي كان يلتقي فيها العاشقون رغم ما نسج عنها من قصص الجان التي تسكنها، لكن العشاق لم يأبهوا لهذه الأقاويل فكانت المغارة الملجأ والملاذ الوحيد لهم، وكسارة الذي قضى نحبه من أجل حبيبته وهبية التي قتلت ضحية الجهل والعادات والتقاليد بقي حبيس هذه المغارة حتى قتل في ظروف غامضة ومن ثم تبعته أخته وردة التي انتحرت لأسباب مجهولة بعدما أن رفض شقيقها أن يزوجها من عاشقها. وهناك مغارة الحمام ووادي الهراط والجرنكي والقرديمي ودير الرهبان كلها أماكن برع الكاتب في وصفها من خلال طريقة استرجاعه للذكريات التي كانت تربطه بماري. وهذه الأماكن أيضاً لها علاقة بالتبصير التي تبعها البطل ولجأ إليها لاسترجاع محبوبته الضائعة، والتي اختفت بظروف غامضة جعلت البطل يلجأ إلى طرق غير لائقة بمعلم ليصل إلى طريق ماري، بعد أن حثه صديقه موسى على ذلك والذي كان الشاهد العيان على حبهما الذي انتهى بحمل ماري من أسامة واختفائها، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الدجل والشعوذة واللهاث وراءهم من مكان إلى آخر للوصول إليها وقد يئس من زميلاتها اللواتي كن معها في المدرسة كأخوات، ليصل في النهاية وبالتعاون مع صديقه الآخر سعيد إلى معرفة مكان ماري التي سوف تأتي مع لينا إلى محطة القطار في مدينة حلب، ويكون اللقاء الأخير بينهما محض صدفة.
يحاول الكاتب خلال أحداثه معالجة القضايا الاجتماعية والإنسانية ومحاربة العادات والتقاليد والابتعاد عن الحقد والضغينة وزرع الفتن، مبيناً أن الفقر يدفع بالناس لامتطاء صهوة الصعاب واقتحام المستحيل من أجل لقمة العيش والتصدي لكل ما يشوه معالم الحب والسلام.
الرواية بجمالية سردها الشعري وبنية لبناتها الفنية وتركيبها المسيج بلغة رشيقة طيعة مستندة إلى حدث واقعي بعيدة عن كل ما هو مرمز ومهمش وتنساب برقة الشعور والحس الإنساني والوجداني الذي يأخذ طابعه من شخصية الكاتب، والذي ترك للقارئ مساحة من الحيرة والغرابة والدهشة في البحث عن نهاية للرواية التي بقيت مفتوحة النوافذ والأبواب للمجتمع الذي مازال إلى يومنا هذا يعاني من بعض القضايا، والتشبث بها وخاصة الجهل وسيطرته على كثير من العقول المتعصبة، برغم التطور الثقافي وانفتاح الحياة. وكان الكاتب حريصاً على تماسك الأحداث ورفع مستوى الفنية إلى درجة التشويق و ترك المجال مفتوحاً أمام الزمن على أن يأتي بمعجزة تفك طلاسم الجهل وتختصر المسافات لتصل بنا إلى واقع أرقى وأجمل.
التاريخ: الثلاثاء21-4-2020
رقم العدد : 995