ثورة أون لاين:
كان الباص يتجه إلى اللاذقية ذلك الصباح الصيفي من عام 1995 حاملاً فنانين ومسؤولين تشكيليين وعرباً مدعوين للمشاركة في بينالي المحبة الأول، مع أعمالهم المشاركة في معرض البينالي ومسابقته.
بين الحينة والأخرى، كان المرحوم طارق الشريف، مدير الفنون الجميلة آنذاك والمسؤول عن المجموعة، ينظر إلى ساعته بشيء من قلق، وكثير من حيوية اشتهر بها، راجياً أن نصل المدينة بأسرع وقت حتى يطمئن إلى استلام الضيوف لغرفهم في الفندق، ويتفرغ لإتمام باقي العمل الكبير المسؤول عنه.
لا أعلم ما الذي دفعني حين صرنا بجوار بحيرة السن لأقول بلهجة خطابية عالية النبرة:
«أهلاً بكم في أرض ابن الوهاج.. ».
أحدثت هذه المداعبة صدى لدى تشكيليين كبار أكثر بكثير مما كنت أتوقع، فتسارعت أسئلتهم تستوضح إن كان مسلسل (الجوارح) قد صُوِّر هنا حقاً؟ وكنت أعتقد هذا، خاصة أن الطبيعة المحيطة ببحيرتنا تشبه إلى حد كبير ما هي عليه عند بحيرة مشقيتا، حيث صورت أحداث المسلسل كما علمت فيما بعد. أما الضيوف فقد طلبوا التوقف لالتقاط صورة تذكارية، وحين كنا ندلف من الباص همس المرحوم طارق الشريف بأذني بما يشبه الحنق: « “الله يغفر لك .. أنا بدي دقيقة من السما”». غير أن هذه الملاحظة المستاءة ضاعت في جو البهجة العارم الذي ملأ به التشكيليون المكان وهم يلتقطون صورهم التذكارية، والأرجح أنها كانت الذكريات الأكثر حضوراً في أحاديثهم اللاحقة لأقاربهم وأصدقائهم عن رحلتهم (التشكيلية) إلى سورية. فعلى امتداد الوقت المتبقي للوصول إلى اللاذقية كان مسلسل (الجوارح) موضوع حديث التشكيليين العرب محاطاً بكل عبارات الإعجاب والتقدير، وخاصة ما يتعلق بالصورة فيه.
بطبيعة الحال لا أنتقص من أهمية ذلك الحدث التشكيلي الرائع، وأقصد بينالي المحبة بدوراته المتتالية، وقد قدم الكثير وكان يبشر بالأكثر، لكن تلك الحكاية عادت من الذاكرة مع الحوار “غير المباشر” الذي يجري حالياً حول الدراما التلفزيونية السورية، وما تواجه من مشكلات وتحديات وصعوبات. وهو حوار فيه كثير من الرغبة بالبناء على نقاط الضعف لانطلاقة جديدة، تستعيد ألق الدراما التلفزيونية السورية. فقد شهد العقدان الأخيران من القرن الماضي “بوجه خاص” نجاحاً واسعاً لهذه الدراما بأشكالها المتعددة الاجتماعي، والتاريخي، والناقد. وقد تمثل هذا النجاح بشكل أساسي في زيادة الطلب عليها من الفضائيات العربية، ومنافستها على الجوائز الأولى في المهرجانات التلفزيونية العربية (وخاصة مهرجاني القاهرة وتونس)، ونشوء شركات إنتاج تلفزيوني خاصة، ودخول المال العربي في الإنتاج التلفزيوني الدرامي السوري إما عن طريق هذه الشركات، أو عبر إنتاج أعمال درامية تلفزيونية عربية بمساهمة فنانين وفنيين سوريين.
قُدمت أراء عديدة لتفسير نجاح الدراما التلفزيونية السورية وقبولها الواسع من الجمهور العربي، وكان من أكثرها رواجاً خروج الكاميرا إلى الشارع، والتصوير في بيوت حقيقية، وفي الحارات، والأسواق، وأماكن العمل، والمواقع الفعلية للأحداث، مما أعطى مصداقية للعمل، ومنحه حيوية لا تتوفر غالباً في الأعمال المصورة داخل الاستوديو. مثل هذه الآراء محقة في تفسيرها هذا إلى حد ما فقط، ذلك أن عدداً غير قليل من المسلسلات التلفزيونية التي صُوّرت في وقت متأخر داخل الاستوديو لقيت اهتماماً واسعاً، كمسلسل “حمام القيشاني” بأجزائه الخمسة، ومسلسل “أيام شامية”، مع ملاحظة أن مسلسل “باب الحارة” قد صُور في “حارة تلفزيونية” تم إنجازها خصيصاً لمصلحة العمل كاستوديو ثابت.
ولا يمكن إغفال مسلسلات دريد لحام ونهاد قلعي التي عرفت نجاحاً عربياً واسعاً في زمن البث بالأبيض والأسود، وقبل ظهور الفضائيات
وللحديث تتمة.
إضاءات- سعد القاسم