الملحق الثقافي:فضيل حلمي عبدالله:
ينسج الشاعر أسطورة الفلسطيني رداً على أسطورة الصهيوني المحتل. يواجه رواية الآخر النقيض بحكاية لم تبنها الخرافة، ولا المزامير والأوهام، حكاية هي بنت الواقع، تعيد ترتيب أبجديتها وعافيتها لنقول الحقيقة أمام سياسة تستهدف شطب التاريخ، لقتل اللغة.
اكتب بنفسك تاريخ قلبك.
رائعة درويش الملحمة: «في حضرة الغياب»، جاء هذا النص النثري متصلاً وممزوجاً بإيقاعات شعرية وجدانية تحكي سيرة الشاعر وتجربته بين المنفى والوطن المحتل منذ النكبة حتى سؤال الهوية.. سيرة الفلسطيني ومسار القضية الفلسطينية.
إن الجديد المبدع في نص درويش هو: سموّ اللغة، فالذي بين أيدينا ليس كتاب سيرة، ولا كتاب تاريخ، بل هو انعتاق اللغة من النص التقليدي، وإطلاق روحها. لتصير اللغة هي الوطن، وهي المكان والزمان.
واللغة هي تعبير عن الوجود، وجود الإنسان ونفي الضياع والتلاشي، واللغة هي كسر المنفى والتقدم للتعرف على جسدها، واسمها وفضائها.. هي ظل الجغرافيا المسروقة، لأن الإنسان ليس حجراً بل هو البرهان، الراوي، الراثي والمرثي، محمياً بكثافة الذاكرة وندب الجروح.
ومن هنا فإن درويش يواجه غياب المكان، وتيه الزمان بالكلمات، برواية شفوية تعيد رسم المكان واستحضار الماضي وتشكيل الحاضر، مقرراً أن المستقبل هو ماضيك القادم.
ودرويش ينسج أسطورة الفلسطيني رداً على أسطورة الصهيوني، يواجه رواية الآخر النقيض بحكاية لم تبنها الخرافة، ولا الأوهام. حكاية هي بنت الواقع، تعيد ترتيب أبجديتها وعافيتها لتقول الحقيقة أمام سياسة تستهدف شطب التاريخ. لقتل اللغة.
فالصهاينة كتبوا روايتهم بأنهم عادوا إلى أرض الميعاد، وكتبوا روايتنا بأننا عدنا إلى الصحراء، ثم حاكمونا لأننا ولدنا هنا. كان دروش يريد أن يقول بأن ليس الأقوياء وحدهم يكتبون التاريخ بل أيضاً الضحايا والمحرومون والمعذبون، وأن اللغة كفيلة بأن تحرر الضحية من سكونها وقبولها بالأمر الواقع.
ومن هذا السؤال يواجه درويش في نصه إشكالية المكان المفقود والزمان المفقود بذاكرة ودلالات لا تكف عن العمل.. ذاكرة فيها ما يكفي من أدوات لتثبيت المكان في مكانه لصناعة الأمل، لأن الأمل هو قوة الضعيف المستعصية على المقايضة، وفي الأمل ما يكفي من العافية لقطع المسافة الطويلة من اللامكان إلى المكان الضيق.
لو نطق الظل لأرشدني:
النص فيه نضوج مدهش، وخصوبة عالية من الدلالة والقدرة على جدل الحكاية الفلسطينية بحكايات التاريخ المستعادة، إنه يقطع المسافة بين الذات والموضوع.. بين الذات والعالم، فالذات مليئة بخارجها.
وعندما يسرد قصة اللاجئ المنكوب المعذب المشرد الضائع يضفي حماية مختلفة على حق الفلسطيني بالعودة إلى بيته، وحقله، وموطن صباه، وذلك بهذه اللغة المزدحمة بالصور والعطشى إلى معنى، فالحروف أو ان فخارية فارغة، ومطلوب منا أن نحك الحروف حرفاً بحرف لتولد النجمة، ونقرب حرفاً حرفاً كي نسمع أصوات المطر، لأن الكلمات هي الكائنات. إن درويش يدعو في نصه إلى حماية اللغة من ركاكة التراجع عن خصوصيتها المجازية، ومن إفراغها من أصوات الضحايا المطالبين بحقهم من ذكرى الغد عن تلك الأرض التي يدور الصراع عليها إلى ما هو أبعد من قوة السلاح: قوة الكلمات.
وظل سؤال النص يلاحق النص:
من يروي قصتنا؟ موضحاً أنك لو عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة، فإن» كنزة « صوف واحدة منتهية الصلاحية لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء.. سنبحث عن الدفء في الرواية الذي يبلغ سن العودة.
الآخر الصهيوني هو الذي خلق أسطورة عن نفسه، وعن الفلسطيني، وأراد أن يفرضها على الفلسطينيين؟ بمعنى أن الذي يكتب التاريخ هو المنتصر. فالإغريق هم الذين كتبوا أسطورتهم عن طروادة المهزومة (الإلياذة والأوديسة)، كان المهزوم يفقد موقعه في التاريخ ويظهر بأن موقعه يتحدد بمقدار ما يعطيه المنتصر. فالطروادي المهزوم لا ملامح له.. لا بد للمهزوم إذاً من أن يخلق أسطورته الخاصة به لكي يقاوم أسطورة القوة، وأغنيات المنتصر التي تحذفه من التاريخ.
التاريخ: الثلاثاء9-6-2020
رقم العدد :1001